أحد المواضيع التي شهدناها كثيراً في أخبار الشركات في الشهر الماضي هو التصرّفات الغريبة لبعض المليارديرات، ولا حاجة لتسمية بعضهم. لكن دعونا نقول فقط إن أي شخص يقضي وقته في الجدل عن أخبار العالم على منصة تويتر أو يستثمر في العملات المشفرة قد عانى الأمرَّين في شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
والسؤال هنا: هل المال هو الذي يجعل بعض أصحاب الثراء الفاحش يتصرفون بشكل غريب أم أنهم سيتصرفون بالطريقة نفسها لو كانوا أشخاصاً عاديين بمخزون مالي اعتيادي؟ تقول الأستاذة المشاركة في كرسي ديفيد دبليو زالزنيك (David W. Zalaznick) للأعمال في كلية كولومبيا للأعمال (Columbia Business School)، ساندرا ماتز: "إن الطريقة التي نحلل بها الشخصيات ثابتة نسبياً بشكل عام، وعلى الرغم من أنها تتغيّر بمرور الوقت، لكن التغيّر محدود".
وأوضحت المخطَِطة المالية والرئيسة في شركة ألافيا فايننشال ويلنس (Alaphia Financial Wellness)، ناتاشا نوكس، إن عملاءها ذوي الدخل المرتفع لديهم ثروات أقل نسبياً وتصل إلى 50 مليون دولار، وإن شخصيات الأفراد لا تتغيّر عندما يمتلكون ثروات طائلة، بل إن الثروات فقط تعزز الصفات الأصلية التي يتّصف بها كل شخص. وتقول نوكس: "على سبيل المثال، إذا كان شخص ما يعاني من مخاوف شديدة بشأن المال ومن الشك أيضاً، سيعزز التدفق المفاجئ للثروة هذه المخاوف والشكوك".
تضيف ماتز إن أحد العوامل شديدة التأثير على صعيد الشخصية هو التغيّرات الشديدة في الظروف المعيشية، مثل تدفق ملايين الدولارات دفعة واحدة، وسنتكلم لاحقاً عن المليارات.
فقد يؤدي هذا التغيير في حياة بعض الأشخاص إلى أن يصبحوا أكثر انفتاحاً من ناحية طريقة التفكير والعقلية بعد خوض بعض التجارب مثل السفر حول العالم والتعرّف على الثقافات الأخرى.
بينما يكون الأثر مختلفاً على البعض الآخر، إذ توضح ماتز أن الزيادة المباشرة الشديدة في الثروة قد تكون ذات أثر خطير على العلاقات الاجتماعية للفرد عندما يشعر "بتغيّر شكل العلاقات الاجتماعية بالكامل من شخص يترتّب عليه الكثير من الالتزامات المالية إلى حالة معاكسة تماماً، ويمكننا تخيّل هذا الأثر بأن يعاني شخص ما من شكوك كثيرة بشأن علاقاته الاجتماعية، ثم تتغيّر أحواله فوراً وتصبح علاقاته مرتبطة بالمال فقط".
وتقول نوكس إن الثروة المفاجئة غالباً ما تفاجئ أصحابها أيضاً نظراً لوجود "مشاكل لا يمكن أن تحلّها"، وتضيف إن زيادة الثروة تعني تعدُّد الخيارات، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى معاناة البعض من مفارقة الاختيار (paradox of choice) وعدم قدرتهم على اتخاذ قرار.
وتركّز أبحاث ماتز الحالية على رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا الذين تمكّنوا من إنجاز خروج ناجح لشركاتهم، لذا فإن العينة ليست الأشخاص ذوي الصفات السلبية.
وتقول إن الأشخاص الناجحين يتّصفون بمعدلات منخفضة من العُصابية (neuroticism)، التي تشير إلى تقلّب المزاج وتنوّع المشاعر لدى الشخص الذي يعاني من ارتفاعها، لذا فإنهم يتّصفون بالاستقرار النفسي والعاطفي"، والوعي والضمير اليقِظ. وتضيف إن المشاكل لدى بعض المليارديرات قد تبدأ بصفات وممارسات شائعة في وادي السيليكون مثل "التصرّف بسرعة وإنجاز الكثير"، والتي "تتيح المجال أمام روّاد الأعمال المبتدئين أو محدودي الأثر للتصرّف والإنجاز".
وإن هذا العالم السريع الحركة "لا يؤدي بالضرورة إلى بناء العقلية التي تضمن النجاح على المدى الطويل". وتتوافق نتائج ماتز مع ما توصّل إليه الأخصائي الاجتماعي السريري (الإكلينيكي) المرخَّص ومؤسس عيادة ووك آند توك ثيرابي (Walk and Talk Therapy)، كلاي كوكريل، في مسيرته المهنية. ويتخصص كوكريل في الصحة العقلية للأفراد أصحاب الثروات الفائقة وأسرهم، بما يشمل العمل مع بعض المليارديرات مباشرة.
ويقول: "لاحظت أن الأفراد الذين يحصلون على قدر كبير من الثروة بشكل سريع يعانون عادةً من الخوف بعد ذلك، فهم يدركون أنهم لا يملكون حيلة ولا يعرفون ماذا يفعلون بتلك الأموال أو كيف يتصرّفون بعدها، وفي كثير من الأحيان، يكونون قد عملوا طوال حياتهم لتكوين هذه الثروة لكنهم لم يتوقعوا تحقيقها ولا يعرفون ماذا سيفعلون حينها".
ويضيف كوكريل إن البعض يصابون بالريبة حيال خسارة تلك الأموال بالسرعة التي حصلوا عليها بها، أو إنهم قد يفقدون علاقتهم بأصدقائهم، ويفكّرون في أنّ "حياتهم قد تصبح غريبة، إذ يفرط البعض في تناول الطعام أو يقدّمون هدايا باهظة الثمن وغيرها من الممارسات غير المعتادة، حتى يدركوا أن ثرواتهم المفاجئة تعقّد علاقاتهم الاجتماعية ويصبحوا على دراية بكيفية الاعتياد على الحال الجديدة". ويوضّح أن التكوين التدريجي للثروة لا يمنح الأفراد مشاعر بالحدّة المذكورة، إذ يقول: "يتيح التكوين التدريجي للأفراد فرصة الاعتياد على الثروة بمرور الوقت، أما في حالة الثراء المفاجئ، فقد يقع الأفراد في حيرة من أمرهم لأنهم لم يكونوا بهذا الثراء أبداً، وهذا يمكن أن يؤدي إلى شعورهم بالعزلة والاكتئاب والذنب والعار وغيرها من المشاعر السلبية".
ولكن هل تتحوّل هذه العواطف المتطرّفة إلى مجازفات كبرى لدى الأثرياء الجدد، أو تصرّفات متهوّرة، أو ربما شعورهم بأنهم أفضل من غيرهم؟ توضح نوكس هذا الجانب قائلة: "قد يشعر الأشخاص الذين يكتسبون ثروة طائلة في فترة زمنية ضئيلة برغبة مفاجئة في المخاطرة، مثل اللجوء إلى الاستثمار الملائكي أو الاستثمار في شركات أصدقائهم في مجالات لا يفقهون حرفاً فيها".
إذاً، ماذا يمكننا أن نقول عن سلوك المليارديرات في النتيجة؟ ربما لا تكون ثرواتهم هي السبب الوحيد لسلوكهم، لكنها على الأرجح جزء من السبب.