المحتوى محمي
Al-Majarra Al-Majarra Al-Majarra
المحتوى محمي
آراء وخبرات

هل نحتاج إلى مفهوم جديد للثروة؟

إن المفهوم المعاصر للثروة هو مفهوم معقد، حيث إنه مزيج من الأفكار التقليدية والحديثة. ما زلنا نعتقد أن الثروة قادرة على التأثير في حياتنا بالسلب أو الإيجاب، لكننا نعتقد أيضاً أنه يمكننا التأثير على ثرواتنا من خلال أفعالنا.

بقلم


money

راسل قاسم، خبير ومؤلف إداري (مصدر الصورة: فورتشن العربية)

تختلف النظرة إلى الثراء المادي وكيفية الوصول إليه اختلافاً كبيراً عما كانت عليه في الماضي. لقد تعرّض مفهوم الثروة إلى تقلبات جديرة بالاهتمام تدعو إلى وقفة وتستدعي التأمل.

كانت الثروة في العصور القديمة مرتبطة بالحظ أو الصدفة، وكان يُعتقد أن لها تأثيراً على حياة الإنسان يمكن أن يكون إيجابياً أو سلبياً، فهي إما نعمة وإما نقمة. ونجد هذا المفهوم حاضراً في غالبية الثقافات والأديان، حيث كان تجسيد الثروة يتم على أنها قوة خارقة للطبيعة. على سبيل المثال، في الأساطير الرومانية، كانت فورتونا إلهة الحظ وتجسيداً للرخاء والثروة. كان الناس يعتقدون أنها قادرة على جلب الحظ الجيد أو السيئ، لذلك سعى الأفراد إلى عبادتها لضمان الوصول إلى الرخاء ورغد العيش. 

في عصر النهضة وما تلاه، شهد مفهوم الثروة تحولاً كبيراً. لم يعد يُنظر إلى الثروة على أنها مجرد نتاج صدفة أو تدخل إلهي. بل تم ربطها بالجهود الشخصية والقرارات التي يتخذها الأفراد. وقد دعم هذا المفهوم مفكرون وفلاسفة عدة، مثل أنطونيو نيجري الذي وصل إلى ارتباط مفهوم الثروة بالفضيلة والقوة والعمل. يؤكد هذا التوجّه على دور الإجراءات والقرارات الفردية في تشكيل ثروة الفرد، كما يسلط الضوء على التفاعل بين الجهود الشخصية والظروف الخارجية. ويمكن أن نرد هذا التحول في مفهوم الثروة إلى عوامل مختلفة، مثل ظهور النزعة الفردية، والتوجه نحو تعزيز المسؤولية الشخصية، وأيضاً تأثير الفلسفات والأيديولوجيات الحديثة.

في أيامنا هذه، غالباً ما يرتبط مفهوم الثروة بالثروة المادية والنجاح. كما يُنظر إلى الحظ السعيد على أنه تحقيق رغبات المرء وأهدافه من مكانة اجتماعية أو نجاح وظيفي أو مالي. وهذا ما يعكس قيم المجتمع المعاصر التي تركّز بصورة كبيرة على الإنجاز الفردي والمنافسة والثروة المادية.

إن المفهوم المعاصر للثروة هو مفهوم معقد، حيث إنه مزيج من الأفكار التقليدية والحديثة. ما زلنا نعتقد أن الثروة قادرة على التأثير في حياتنا بالسلب أو الإيجاب، لكننا نعتقد أيضاً أنه يمكننا التأثير على ثرواتنا من خلال أفعالنا. كما نعتقد أن العمل الجاد والتحضير والموقف الإيجابي يمكن أن تساعدنا في التغلب على التحديات التي تواجهنا في تحقيق الثروة.

يمكن أن نفسّر هذا التغيّر في مفهوم الثروة إلى مجموعة من العوامل، مثلاً ظهور اختصاصات التنمية البشرية وممارسات تطوير الذات؛ حيث الكثير من الكتب والمقالات والدورات والاستشارات، وما يتبعها من طرق التفكير الإيجابي وكيف يمكن أن تؤثر أفكارنا على واقعنا وعلى تحقيق رغباتنا. ولا يمكننا هنا أن نغفل دور التكنولوجيا، فقد أصبحنا قادرين على الوصول إلى المعلومات والموارد المعرفية أكثر من أي وقت مضى، ما يمنحنا إحساساً أكبر بالسيطرة على مستقبلنا.

لقد ألقى هذا المفهوم المتغير للثروة بظلاله على حياتنا. فإذا كنا نعتقد أنه يمكننا التحكم في ثرواتنا، فمن المرجح أن نتحمل المخاطر ونضع أهدافاً طموحة. كذلك إذا كنا نعتقد أن التفكير الإيجابي مهم، فمن المرجح أن نركز على الأشياء الجيدة في حياتنا ونرى الفرص عوضاً عن المشاكل والعقبات. وإذا كنا على دراية بالدور الذي يلعبه الحظ في حياتنا، فمن المرجح أن نكون ممتنين للأشياء الجيدة التي تحدث لنا وأن نتعلم من تلك السيئة.

يتقاطع هذا التناول المجتمعي للثروة مع مخرجات الأبحاث في مجالات الإدارة والأعمال، حيث تشير الدراسات الحديثة يوماً بعد يوم إلى أن النجاح في عالم الأعمال وتكوين الثروات لا يمكن تفسيره فقط من خلال الجهد الذي نقوم ببذله، والتخطيط السليم، وحسن الإدارة، وإنما هناك عوامل أخرى متغيرة ومتبدلة، مشابهة في مواضع معينة لإلهة الحظ التي آمن بها الناس منذ آلاف السنين، البعض يسميها اليوم المعامل إكس، والبعض الآخر يطلق عليها مسميات أخرى.

على الرغم من هذا الفهم المركب والمتطور للثروة في أيامنا المعاصرة، إلّا أنه جاء مع جوانب سلبية أيضاً، فالسعي الدؤوب وراء الثروة المادية والنجاح يمكن أن يؤدي إلى "فخ السعادة"، حيث لا يشعر الأفراد بالرضا أبداً ويسعون باستمرار لتحقيق المزيد. يشير هذا المنظور إلى أن الثروة الحقيقية أو السعادة لا تكمن في الثروة المادية فقط، بل في الرضا والعلاقات الهادفة. وهناك الكثير مما يدلل على ذلك؛ فمثلاً، المعايير المعتمدة في تقرير السعادة العالمي تتضمن باقة من المؤشرات التي تدلل على السعادة، ولا تنفرد بالثروة فقط، وإنما تنظر في متوسط العمر الصحي المتوقع، والدعم الاجتماعي، والحرية في اتخاذ القرارات، وغياب الفساد، والعطاء للجمعيات الخيرية، وغير ذلك.

نضيف إلى ذلك البحث عن الطريق الأمثل لاستخدام الثروات بالنسبة للأشخاص والمؤسسات، فمنذ أكثر من خمسة قرون تحدث الفيلسوف الإيطالي مكيافيلي في كتابه "الأمير" عن الثروة والفضيلة، حيث اعتبر أن الثروة وحدها هي سيل جارف يدمّر ما يقف في طريقه، وأن الفضيلة ضرورية كي تتحكم في الثروة وتحيّد آثارها المدمرة. استغرق الأمر أكثر من أربعة قرون لنبدأ الحديث عن المسؤولية المجتمعية في مسار أطلقه بشكل رسمي عالم الاقتصاد الأميركي هوارد بوين في كتابه "المسؤولية المجتمعية لرجال الأعمال" الصادر عام 1953.

على الرغم من التغيرات الكبيرة والجذرية التي شهدناها خلال السنوات الماضية في حجم الثروات، ومصادرها، وأصحابها، وكيفية توزعها، ومدى صمودها؛ إلا أن مفهومها لم يتغير كثيراً على مدى آلاف السنين. ربما سنشهد في العقود القادمة تغيراً جذرياً في مفهوم الثروة المادية، يناسب ما نعيشه من تحولات وفتوحات معرفية مدهشة.


image
image