في أبريل/ نيسان، أتممت ربيعي الخمسين، أو "الخمسين الكبيرة" على حد تعبير صديقة عزيزة في رسالتها التي تمنت لي فيها عيد ميلادٍ سعيداً. وأتصور أن لهذه السن دلالتها في حياتي وحياة أي إنسان يصل إليها، وأؤكد لكم أنني لا أشعر بذلك التقدم في العمر على النحو الذي تخيلته من قبل؛ لذلك أنا مع من يقولون إن العمر مجرد رقم، وأزيد عليهم إن العمر طريقة تفكير قبل كل شيء.
وثمة من ينصحك بأن تحصي سنين عمرك بعدد اللحظات والخبرات التي مثلت نقاط تحول في حياتك، لا بالأيام والأعوام، فالحياة الثرية بالخبرات هي الحياة المُرضية بحق. وهكذا، أتعامل مع يوم ميلادي مثلما أتعامل مع تقرير مراجعة أداء في نهاية عام عمل؛ أختلي بنفسي لأستعرض شريط ما حققته وما فاتني تحقيقه، وأجد أن جلسة مثل هذه نِعم التذكرة لي بأن أثابر على الدرب نحو تحقيق أحلامي وألا أتخلى عنها.
ما زلت تلميذاً في مدرسة الحياة؛ عازماً كل العزم على المضي قدماً في رحلتي المتواصلة للتطور والنضج، باحثاً باستمرار عن نبع الحكمة والتنوير الأبدي. ولقد عرفت إقبال الحياة وإدبارها، وذقت مرارتها، قبل أن أنفض عني غبارها وأصبو حثيثاً نحو حلاوتها، لتشكل هذه التجربة وتلك قصة حياتي. وهناك قول مأثور ينبهنا إلى أنه: "لو كشف الله عنك غطاء الغيب لما اخترت غير الواقع"؛ أي أن ما نحن فيه اليوم ليس سوى نتاج مجموع تجاربنا السابقة، وأن مستقبلنا يتوقف على حاضر شؤوننا.
وعليّ أن أذكرك هنا بـ "تأثير الفراشة"؛ الذي يشير إلى الأحداث الصغيرة التي قد تبدو تافهة ولكنها قد تؤدي في النهاية إلى عواقب أكبر بكثير، أو بعبارة أخرى؛ تأثيرات غير خطية في أنظمة معقدة للغاية. وقد سُمّي بـ "أثر الفراشة" لأنه، عندما ترفرف فراشة بجناحيها في الهند، فإن هذا التغيير الطفيف في ضغط الهواء يمكن أن يتسبب في النهاية بإعصار في ولاية أيوا الأميركية.
أحببت أن أسرد لكم بضع نصائح، واخترت أن أصيغها على هيئة خطوات عملية (معذرة؛ ولكن لا تنسوا أني مهندس في نهاية المطاف!) من واقع ما اكتسبته من خبرات حتى يومنا هذا، آملاً أن تجدوا فيها الفائدة المرجوة. وهكذا، لن تجدوا فيها أفكاراً حالمة أو آمالاً عامة؛ بل خطوات واضحة قابلة للتنفيذ وغير مرتبطة بعمر بعينه. وتذكروا أن أي يوم في حياتنا هو يوم مثالي للشروع في تقويم مسار ما تبقى منها.
- أحبَّ نفسك: ينبغي أن تكون أنت الأولوية الأهم، بخلاف والديك أو زوجتك أو أطفالك أو أي شخص آخر. وتعني محبة نفسك ورعايتها أنك تعرف قيمتك بالنسبة إلى نفسك وبالنسبة إلى الآخرين؛ كما تعني الاهتمام برعاية نفسك، جسدياً ووجدانياً ونفسياً. ومن شأن هذا الوعي أن يساعدك على معرفة حدودك، ووضع معايير عالية، وأن يحول دون تضحيتك برفاهك لأجل أن ترضي غيرك. وإياك أن تخلط بين هذا وبين الكبر والغرور؛ هاتان صفتان في الشخص الذي يفتقر إلى الأمان النفسي، ولا علاقة لهما بحب الذات. ومع أن منطق الأمور يدفعك إلى التعامل مع هذه النصيحة على أنها من باب الأنانية؛ إلا أنها على النقيض من ذلك تماماً، فلن يتسنى لك أبداً أن تحب غيرك إلا عندما تحب نفسك أولاً.
- حدد رؤيتك: ما رؤيتك في الحياة؟ إن لم تكن لديك رؤية، فبادر إلى صياغتها. الرؤية بمثابة بوصلة حياتك، ولسوف تساعدك على اتخاذ القرارات وفرز من حولك من أشخاص وأشياء بطريقة أسهل وأشد سلاسة. واعلم أن لحياة كل منا أربعة جوانب؛ العملي والصحي والشخصي والروحاني. وهكذا، ينبغي أن ترتقي رؤيتك لتسمو على تلك الجوانب الأربعة، حتى تكون لها بمثابة مظلة جامعة. ومن ثم؛ يجب أن يتماشى أي هدف تحدده لنفسك في أي مجال من مجالات حياتك مع رؤيتك ويتوافق معها، وثمة العديد من المواقع الإلكترونية والكثير من المدربين المحترفين لمساعدتك على صياغة رؤيتك الشخصية.
- لتكن نواياك حَسَنة: توجه نواياك مستهدفاتك أو أهدافك في كل مجال من المجالات الأربعة، ويجب أن تكون أهدافاً تمس القلب وتحفز الشغف، وينبغي أن تهتدي بها بينما تضع الخطط لكل قصد. والنوايا أسمى من المستهدفات أو الأهداف؛ اعتبرها نموذجاً مصغراً لرؤيتك لكل جانب من جوانب حياتك. فعلى سبيل المثال؛ يمكنك تحديد النية التالية في ما يخص الصحة أو الجسد: "أنوي أن أتبنى أسلوب حياة صحياً، وأن أكون لائق الجسد، ومفعماً بالحياة والطاقة". وبالمثل؛ يمكنك صياغة نوايا مختلفة لبقية الجوانب، وستكون قد حققت المراد عندما تشعر بالرضا في نهاية المطاف.
- حدد الأهداف: ينبغي لك تحديد بعض الأهداف، والأمثل أن تكون ما بين 3 إلى 5 أهداف لكل نية. فعلى سبيل المثال؛ إذا كانت إحدى نواياك هي التمتع بجسد صحي لائق بدنياً، فعندئذٍ تكون أهدافك هي تناول طعام صحي وممارسة الرياضة يومياً وحساب السعرات الحرارية التي تتناولها وتقليل الكربوهيدرات، وما إلى ذلك. والمهم أن تكون الأهداف قابلة للقياس ليتسنى لك تتبع تقدمك.
- اصنع هويتك الشخصية: اعلم أن كل واحد منا هو بمثابة "علامة تجارية" ذات شخصية وقيم وسمعة وسمات ومجموعة من التصورات في أذهان من يعيشون حوله. وعندما نحقق تلك التصورات أو نتجاوزها، نكون قد نجحنا في تعزيز علامتنا التجارية، والعكس صحيح. وتعكس علامتك التجارية الشخصية قيمتك بين أقرانك وعائلتك وأصدقائك، ولا يمكنك بالطبع بناء علامة تجارية شخصية إلا إذا نفذت الخطوات الآنفة الذكر وامتلكت رؤية ونوايا وأهداف.
للحياة قوانين عامة عديدة، وتعترينا تصاريفها بغض النظر عن هويتنا أو ديننا أو ثقافتنا أو بلدنا أو عرقنا. وأستعرض معك هنا بعضاً من تلك القوانين من باب التأمل فيها وتدبرها:
- تبنَّ قانون مورفي: ومفاده أنه إن كان لشيء ما أن يتعطل فسوف يتعطل. عليك بالتعرف إلى هذا القانون العام مبكراً قدر الإمكان، ومن ثم اطمح نحو الأفضل مع الاستعداد للتعامل مع الأوقات العصيبة عندما تصادفها، واعلم أنك سوف تصادفها؛ هذه هي الحياة.
- كن لطيفاً: هذه الدنيا صعبة علينا جميعاً، وليس من بيننا شخص إلا ولديه قصة كفاح. لذا؛ حاول أن تكون مصدراً للبهجة وأن تترك لمن حولك الفرصة كي يحكموا عليك. ولا تكن ساذجاً، وتعلم أن تفهم الناس لتفرز الخبيث من الطيب، فتُبقي الطيب قريباً منك، وتنأى بنفسك عن الخبيث. واللطف مثله مثل الطاقة؛ لا يفنى، وتستعيده دوماً؛ إذ إن الكارما سلاح ذو حدين.
- بالمثابرة تبلغ المراد: ركز على تحسين الذات وتنميتها لتتكيف وتكون أكثر مرونة في التعامل مع مصاعب الحياة، حتى تستغل هذه الصعوبة بصفتها نقطة انطلاق نحو المستوى التالي من حياتك. وتحلَّ بالصبر والمثابرة، لأنه تغيير يستغرق وقتاً. وفي الفيلم الرائع "ثا فاوندر" (The Founder) أي "المؤسس"، ثمة مشهد رائع لبطل الفيلم راي كرو" في نهاية الفيلم، يقول فيه: "إنني أعرف ما تفكرون فيه الآن؛ كيف أمكن لممثل مبيعات لماكينات الميلك شيك، وهو في عمر 52 عاماً، أن يبني إمبراطورية مطاعم الوجبات السريعة التي تضم 1,600 مطعم في 50 ولاية و5 دول، وتدر إيرادات سنوية تقارب 700 مليون دولار؟ أما السر فهو في كلمة واحدة: المثابرة"!
- أنت قائد أفكارك" أفكارك هي التي تقود عواطفك ومزاجك وطاقتك وزخمك. ومن أصعب الأمور في الحياة أن تحافظ على روح البهجة والرضا مهما كانت المصاعب التي تمر بها، فهذه العقلية الإيجابية تحديداً هي التي تعكس التحلي بإيمان قوي يخرج بك سالماً من الأوقات الصعبة حتى تستمر الحياة. والعقل الباطن مثل جندي أعمىً قوي يتبع كل نزوة أو إحساس لديك، سواءً قصدت ذلك أو لا. وهكذا، إن كنت تشعر بالحزن والأسى على نفسك، فإنه سوف يعزز هذا الشعور ومن ثم يجعلك بائساً؛ إنما لو امتلأ قلبك رضا وإيماناً، فإن عقلك الباطن يجدها دعوة له كي يرفع من روحك المعنوية ويجعلك تجتاز المصاعب.
- المشاركة اهتمام: ربما أمكنك أن تعيش حياتك بمفردك؛ ولكن متعة الحياة في أن يكون أحباؤك من حولك، فعندئذٍ يكون لديك هدف وغرض، وذلك الشعور بالبهجة والرضا الذي ينتابك عند العطاء والمبادرة والمشاركة والاهتمام بالغير هو شعور عرفناه جميعاً. وقتئذٍ، إن وجدت من لا يحصي عمره إلا بالوقت الذي يمضيه معك، فتمسك به ولا تتركه أبداً!
- الكارما حقيقة: كل ما تقدمه في هذه الدنيا سيعود إليك وعليك؛ إن قدمت خيراً فسوف تجد خيراً كثيراً، وإن أبديت سوءاً فاعلم علم اليقين أنه سيُرد إليك وبالاً. لن يمر أي فعل مرور الكرام؛ بل سوف تُكافأ أو تُجازى عليه وفق ما صنعت أو اقترفت، عاجلاً أو آجلاً. هذه حقيقة لا ريب فيها، وكما تدين تدان.
وختاماً، أذكّرك بأن هذه حياتك أنت، وهي حياة وحيدة، ولا تمديد لها ولا إعادة؛ إنها فرصة واحدة حيث قد تظهر لك كلمة "النهاية" في أي لحظة وأي مكان. وما يدعوني ويدعوك إلى التفاؤل هو أن كل يوم تشرق عليك شمسه يمثل بداية جديدة، وليس عليك سوى أن تستغلها أفضل استغلال.