المحتوى محمي
Al-Majarra Al-Majarra Al-Majarra
المحتوى محمي
بيئة العمل

ما هي أوجه الشبه بين الذكاء الاصطناعي و"الإنسان الخارق" الذي تصوّره الفيلسوف نيتشه؟

يتماشى مفهوم سوبرمان مع مفهوم ما بعد الإنسانية الذي يتبناه الرأسماليون والتكنولوجيون، والذي ينص على أن التكنولوجيا المتقدمة ستسمح للبشر بتعزيز قدراتهم وبيئتهم بصورة جذرية.

بقلم


money

(مصدر الصورة: صور التراث- غيتي إميدجيز)

كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في كتابه المشهور "هكذا تكلم زرادشت" (Thus Spoke Zarathustra) عام 1883: "الإنسان حالة يجب التفوّق عليها، وهو مرحلة انتقالية بين الوحش والسوبرمان، والطريق للعبور إلى المرحلة المقبلة. ما يجعل الإنسان عظيماً هو أنّه جسر للانتقال إلى مرحلة لاحقة وليس النهاية". ويشير هذا القول إلى أن الإنسان هو صلة الوصل لما كان قبله وما سيأتي بعده.

عندما كتب المفكر الشهير الذي كان يواجه بعض المصاعب هذا الكتاب، كان يفكر ملياً وبمشاعر متضاربة في الثقافة الألمانية، وأيضاً في مشاكله مع صديقه الملحّن ريتشارد فاغنر، وسلسلة من الأمراض، وعادات سيئة جداً تضمّنت الإدمان غالباً، لكنه كان يواجه أيضاً ما يسمّيه المؤرخون الثورة الصناعية الثانية، أي ثورة الإنتاج الضخم.

أنذرت الكثير من كتابات نيتشه التي كانت غامضة حينئذ بالقرن العشرين المليء بما أسماه "العدمية"، وبعض الأفكار المتطرّفة الخاصة به. وتحدّث عن الإنسان الخارق، وهو الإنسان الذي يمسك بزمام حياته بالكامل ويتجاوز الأعراف التقليدية ويضع نظاماً خاصاً به مع مجموعة من القيم التي تتيح له التغلّب على كافة التحديات التي يواجهها البشر. والآن مع تنامي الذكاء الاصطناعي، وإعلان التكنولوجيين المعاصرين عن "ثورة صناعية رابعة" ستؤدي لظهور "إنسان خارق" جديد، يظهر سؤال ملحّ هو: هل ما زالت البشرية هي الطريق للعبور إلى المرحلة المقبلة والنجاة من الهاوية؟ لذا، فإنه من الضروري التفكير ملياً بالطريق الذي سلكناه لنصل إلى ما وصلنا إليه.

تطور فائق السرعة

يبدو أن نبوءة نيتشه تتحقق في ظل التطوّرات التكنولوجية، وهناك مثالان مشهوران عليها، وهما معروفان أيضاً. أولاً، بعد نحو نصف قرن من وضع نيتشه تصوّره عن الإنسان الخارق، أصدرت شركة أكشن كوميكس (Action Comics) إصدارها الأول من المجلة في عام 1939 وتضمّنت شخصية "سوبرمان"، والتي أشارت إلى أول بطل خارق في الكتاب الهزلي في الوقت الذي كان العالم فيه يسير نحو عصر الذرّة، والذي صُوِّر مؤخراً في الفيلم الناجح أوبنهايمر (Oppenheimer).

وفي الفترة التي كان العالم فيها يتعامل مع الإنجازات غير المسبوقة للثورة الصناعية الثانية، والتي أدت لنشوء مدن حديثة مليئة بالمصاعد وناطحات السحاب والسيارات، كان سوبرمان هو الشخص القادر على التغلب على تلك التكنولوجيا الحديثة، واختُصرت قدراته في عبارة واحدة: "أسرع من رصاصة، وأقوى من قاطرة، ويمكنه تخطّي المباني الشاهقة بقفزة واحدة!". وحتى هذه العبارة نفسها كانت ذات بُعد صناعي بطبيعتها وظهرت في عرض للراديو عام 1940، والذي كان تكنولوجيا جديدة كلياً حينئذ".

بينما أشار نيتشه في شخصيته للإنسان الخارق إلى شخص خرج عن الأعراف والتقاليد، فإن شخصية سوبرمان تنطوي على مجموعة من التطوّرات والمزايا المتقدمة على البشر العاديين، مثل مقاومة الرصاص والقدرة على التدمير بنظرة عين.

وعلاوة على ذلك، كان مفهوم الإنسان الخارق الذي وضعه نيتشه مفهوماً طموحاً يعني المستوى الأعلى من الإنسان، بينما سوبرمان الذي وضعته شركة دي سي (DC) ينحدر من عالم كريبتون (Krypton) الفضائي، وهو كوكب أكثر تعقيداً من الأرض. كما أن سوبرمان ليس أقوى من البشر العاديين من الناحية الجسدية، بل يستمد بعض صفات الإنسان الخارق لدى نيتشه مثل الترفّع عن القيم التقليدية. وحتى في شخصيته المغرورة مثل كلارك كينت، فإنه ذو خلق حسن مثل أي صحفي مثالي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المهنة هي الأكثر استقامة أخلاقياً.

يتماشى مفهوم سوبرمان مع مفهوم ما بعد الإنسانية (transhumanism) الذي يتبناه الرأسماليون والتكنولوجيون، والذي ينص على أن التكنولوجيا المتقدمة ستسمح للبشر بتعزيز قدراتهم وبيئتهم بصورة جذرية، ويعود إلى رؤية نيتشه للإنسان على أنه "مرحلة انتقالية" و"حالة يجب التفوّق عليها"، أو أساس للمكننة (التحويل إلى حالة ميكانيكية) من وجهة نظر مفهوم ما بعد الإنسانية. ويشتمل مفهوم ما بعد الإنسانية على مفهوم آخر هو "الإنسان الجديد"، والذي يدل على حالة فائقة المثالية للإنسان بأفضل حالاته، وهو مفهوم اختير بعد عقود من وفاة نيتشه من قِبل الحركات غير الديمقراطية التي تتراوح من الشيوعية إلى الفاشية إلى مجموعتها الفرعية مثل النازية، والتي تُصوَّر كل منها الإنسان المثالي على أنه نتاج العلوم والتكنولوجيا، لكن الجميع يدركون أن هذه المفاهيم كانت خاطئة كلياً وبطريقة مرعبة.

في حين أن هذه المفاهيم قد تبدو غريبة بالنسبة للأشخاص المهرة باستخدام التكنولوجيا في الوقت الراهن، إلا أنها في الواقع ما تزال جزءاً أساسياً من السياسة السائدة وثقافة البوب. كما أن أغنى رجل في العالم، إيلون ماسك، هو أحد المناصرين المشهورين لمفهوم ما بعد الإنسانية ويعمل بصورة دائمة على مشاريع لاسكتشاف الفضاء وإدخال رقائق الكمبيوتر في أدمغة البشر.

وازدهر مجال الخيال العلمي من خلال البحث في الاختلافات بين السوبرمان وما بعد الإنسان، وغالباً ما ظهرت هذه الاختلافات بطريقة مزعجة أو بائسة مثل فيلم بليد رانر (Blade Runner) في الثمانينيات وفيلم ذا ماتريكس (The Matrix) الأحدث منه. حتى الفيلم الذي حقق نجاحاً ساحقاً هذا الصيف، باربي، فقد تعمّق في عالم ما بعد الإنسانية، إذ يستعرض دمية بلاستيكية تنعم بالشكل النمطي المثالي للأنوثة والجمال الفائق، لكن الكثير من الآراء والمراجعات لهذا الفيلم تتفق على أنه من المستحيل الوصول إلى حالة السوبروومان (المرأة الخارقة) في العالم المعاصر.

ماذا حدث لسوبرمان القرن الحادي والعشرين؟

ننظر إلى مفهوم السوبرمان بصفته أداة سياسية شائعة الاستخدام بسبب التقسيم الطبقي المتأصل الذي يرتبط بالشخص "المثالي"، خاصة أن المفهوم يتقاطع مع التكنولوجيا. وعلى الرغم من أن الاشتراكيين والرأسماليين على حد سواء يستكشفون مفهوم ما بعد الإنسانية، إلا أن علماء الاجتماع قد وضعوا نظرية مفادها أن مفهوم ما بعد الإنسانية السياسي يمكن أن يؤدي لظهور شكل جديد من الرأسمالية أسموه الرأسمالية 2.0، والتي ستكون حقبة شديدة التركيز على قفزات الإنتاجية المدفوعة بالتكنولوجيا.

والآن، بينما نشهد التغييرات الهائلة التي تشكّلها الثورة الصناعية الرابعة، والتي تشير إلى ثورة الأتمتة الذكية والترابط والذكاء الاصطناعي، قد يتساءل هواة الفلسفة عن شكل الإنسان الخارق في عصرنا الحالي. وفي حين أنه من المبكر فعلياً التفكير في ذلك، فإن التاريخ يشير إلى أن الناس سيبحثون عن رمز طموح قادر على التفوّق على أطر القوة في عصرهم.

طرح أحدهم فرضية مفادها أن الإنسان الخارق في عصرنا الحالي سيكون الذكاء الاصطناعي، وذلك الشخص هو ماسايوشي سون، أحد أغنى الأشخاص في العالم، ووصف بالفعل الاختراع بأنه "أصل الإنسان الخارق". وأوضح سون للمستثمرين هذا العام أن ظهور نظام تشات جي بي تي قد جعله يعاني من أزمة وجودية مزعجة بسبب الذكاء الاصطناعي ومعنى الحياة، وذلك قبل أن يقرّر تكريس شركته ومسيرته المهنية "لتصميم مستقبل البشرية"، واشتهر سون بأنه أحد أهم مستثمري رأس المال المغامر (الجريء) لعقود والرئيس التنفيذي لمجموعة سوفت بنك (SoftBank) اليابانية، وهذا يبدو مماثلاً للأزمة العدمية التي واجهها نيتشه.

لا يعني هذا بالضرورة أن أفكار سون تماثل أفكار نيتشه، لكن التشابه مع مفهوم الإنسان الخارق الذي وضعه نيتشه واضح وجليّ. وأخبر سون مساهمي مجموعة سوفت بنك أنه يبحث عن أفكار جديدة ويعدّلها بمساعدة الذكاء الاصطناعي، وأنه استخدم التكنولوجيا لتطوير أكثر من 600 اختراع جديد في أقل من عام، كما أنه يستعين بالتكنولوجيا الناشئة لزيادة ذكائه وقدراته على التفكير بشكل كبير، وذلك انطلاقاً من مفهوم ما بعد الإنسانية.

وبينما يمر العالم بتطوّر تكنولوجي هائل آخر، ويبحث الناس عن رمز أو كيان طموح قادر على تجاوز أطر القوة في عصرنا الحالي، فمن المهم أن نعرف تماماً ما هي الأطر التي ينبغي تجاوزها، والتي يمكننا أن نفرض جدلاً أنها المعلومات.

وبالطريقة نفسها التي استطاع فيها الإنسان الخارق لدى نيتشه وضع مبادئه وقيمه الخاصة، وكان سوبرمان قادراً على التحكم بجسده المنيع، فإن القدرة الخارقة للكيان الجديد، وهو الذكاء الاصطناعي، ستكون التحكم بالكمية الهائلة من المعرفة التي يتضمنها، لكن الفرق هو أن الإنسان الخارق وسوبرمان هما شخصيتان خياليتان ولا توجد أي وسيلة حقيقية يمكن للناس التفاعل معهما من خلالها، فقد كانت الشخصيتان خياليّتين، أما الذكاء الاصطناعي فهو أداة حقيقية تحفّز تغييراً سريعاً في العالم.

ومن السابق لأوانه أن نتوقّع أثر الذكاء الاصطناعي في تغيير ملامح القوى العاملة، لكن ربما علينا التفكير ملياً في أشكال السوبرمان والتزام الحذر بشأنها. وعلى الرغم من أن البشرية تمثّل مرحلة انتقالية، فإن الحالة المؤكدة التي سوف تهوي بنا إلى الهاوية هي السعي لامتلاك قوى خارقة قائمة على التكنولوجيا.


image
image