بلغت كمية ثاني أكسيد الكربون التي أطلقها البشر منذ عام 1850 في الغلاف الجوي 2,500 مليار طن، فضلاً عن استخدامهم المستمر وغير المستدام للموارد الطبيعية، ما يشكل تهديداً واضحاً للمناخ العالمي والاستدامة للأجيال القادمة.
وشهد العالم خلال فترة الخمس سنوات بين 2015 و2019 درجات حرارة هي الأعلى على الإطلاق، بينما ارتفع منسوب مياه البحر عالمياً نحو 20 سنتيمتراً منذ عام 1880، ما يشكل تهديداً للمدن والنظم الساحلية. وحذرت منظمة الصحة العالمية من أن التغير المناخي يزيد مخاطر موجات الحر والجفاف والسيول والعواصف وشدّتها، ما قد يُلحق الكثير من الأضرار بالبنى التحتية والأنظمة الغذائية والصحة.
وإلى جانب ذلك، قد يدفع التغير المناخي نحو 100 مليون شخص إلى ما دون خط الفقر بحلول عام 2030، ما يؤدي إلى تفاقم مشكلة عدم المساواة القائمة حالياً. وتشيرتقديرات منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) إلى أن الطلب العالمي على الموارد سيزداد بمقدار ثلاثة أضعاف بحلول عام 2050، وأنّ الاقتصاد الدائري سيكون العامل الأبرز لمواجهة هذا التحدي.
يستند مفهوم الاقتصاد الدائري إلى الحفاظ على الموارد الطبيعية أطول فترة ممكنة، مع الحد من النفايات بجميع أشكالها من خلال استخدامها مدخلات جديدة في عمليات الإنتاج. ويهدف الاقتصاد الدائري إلى إنشاء نظام حلقة مغلقة تصبح المخلفات فيها موارد، ويُعاد تدوير المواد ضمن النظام الاقتصادي بشكل مستمر.
تحل هذه المنهجية الجديدة مكان الاقتصاد الخطي التقليدي القائم على استخلاص الموارد واستخدامها في عمليات التصنيع ثم التخلص من النفايات، وتعتمد بدلاً منه نموذجاً جديداً يتمحور حول ترشيد الاستهلاك وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير. وينطوي هذا النموذج على تصميم المنتجات والأنظمة مع مراعاة المفهوم الدائري، فضلاً عن تطوير نماذج أعمال جديدة قادرة على دعم الممارسات الدائرية.
ومن جانبها، كشفت مؤسسة إيلين ماك آرثر، وهي إحدى أكبر عشر مؤسسات خيرية في الولايات المتحدة الأميركية تنشط في مجالات الأمن العالمي وتنمية المجتمع والمنح، أنّ الاقتصاد الدائري يمكنه توفير منافع اقتصادية بقيمة 4.5 تريليون دولار أميركي على مستوى العالم بحلول عام 2030، وخفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 45%، مع إمكانية توفير ما يصل إلى 700 ألف فرصة عمل جديدة. وأشارالمنتدى الاقتصادي العالمي أيضاً إلى أنّ مبادرات الاقتصاد الدائري قد تُسهم في تحقيق وفورات بقيمة 2.4 تريليون دولار أميركي سنوياً في تكاليف إدارة النفايات بحلول عام 2030.
وتتسم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشدة تأثرها بتداعيات التغير المناخي، إذازدادت الحوادث المناخية القاسية مثل الجفاف والسيول شدة وتواتراً على مدى العقود القليلة الماضية. وقد يُفاقم التغير المناخي مشكلة ندرة المياه في المنطقة، كما أنه من المتوقع أن يرتفع متوسط درجات الحرارة بين 1-2 درجة مئوية بحلول عام 2030، وبين 2-5 درجة مئوية بحلول عام 2100. وقد يهدد ارتفاع منسوب مياه البحر المناطق المنخفضة، لا سيما المدن الساحلية مثل الإسكندرية وتونس وبيروت.
ويمكن لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الإسهام في الحد من آثار التغير المناخي بطرق عدة، منها:
- خفض انبعاثات الغازات الدفيئة: يهدف الاقتصاد الدائري إلى الحد من النفايات والحفاظ على الموارد، بما يؤدي إلى الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة التي تطلقها المكبات ومنشآت حرق النفايات. كما يتيح تنفيذ ممارسات الاقتصاد الدائري للشركات الحد من بصمتها الكربونية.
- تعزيز الطاقة المتجددة: يشجع الاقتصاد الدائري على استخدام موارد الطاقة المتجددة، مثل طاقة الشمس والرياح، ما يسهم في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتخفيف آثار التغير المناخي.
- تعزيز كفاءة الموارد: يشدد الاقتصاد الدائري على أهمية الاستخدام الفعال للموارد من خلال استراتيجيات عديدة، مثل إطالة عمر المنتج وإعادة استخدامه وإعادة تدويره، ما يحد من الطلب على المواد الأولية ويدعم مساعي الحفاظ على الموارد الطبيعية، وبالتالي خفض البصمة الكربونية الإجمالية.
- تشجيع الممارسات الاستهلاكية المستدامة: يشجع الاقتصاد الدائري المستهلكين على اعتماد أنماط استهلاكية مستدامة تولي الأولوية لاستخدام المنتجات والخدمات الصديقة للبيئة، إذ تحد هذه المنهجية من إنتاج النفايات وتعزز الاستخدام المستدام للموارد.
- تعزيز سبل التعاون بين بلدان الجنوب (South-South cooperation) لتبادل المعرفة بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها من الأطراف المعنية.
- التركيز على قطاعات الزراعة والتصنيع والبناء التي يمكن الوصول إلى أكبر قيمة لها من خلال مناهج الاقتصاد الدائري.
أطلقت بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العديد من المبادرات لتسريع اعتماد ممارسات الاقتصاد الدائري.فأطلقت الإمارات السياسة الوطنية للاقتصاد الدائري، التي تهدف إلى تعزيز الدور الرائد للدولة في مجالات الاستخدام المستدام للموارد والحد من النفايات وتوفير فرص العمل الجديدة.
كما أعلنت المملكة العربية السعودية عن مبادرة البرنامج الوطني للاقتصاد الدائري للكربون بهدف الحد من الانبعاثات الكربونية وتعزيز النمو الاقتصادي. وتشمل المبادرة مجموعة من الاستثمارات في مشاريع الطاقة النظيفة وتقنيات التقاط الكربون وتخزينه، وغيرها من نماذج الأعمال الدائرية.
أما قطر، فأطلقت الرؤية الوطنية 2030 التي تركز على التنمية المستدامة وتؤكد أهمية الاقتصاد الدائري. ووضعت البحرين خارطة طريق الاقتصاد الدائري لرفع كفاءة الموارد والحد من النفايات وتحقيق القيمة الاقتصادية من مصادر النفايات. وأطلق الأردن العديد من المبادرات لتعزيز الاقتصاد الدائري، بما فيها وضع أسس قطاع إعادة التدوير وتنفيذ العديد من مشاريع تحويل النفايات إلى طاقة.
وضمت العديد من التقارير أمثلة على ممارسات الاقتصاد الدائري في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها محطة تحويل النفايات إلى طاقة في دبي التي تعالج 5 أطنان من النفايات يومياً وتحولها إلى طاقة، فضلاً عن مشاريع المدن الذكية المستقبلية التي تطورها دولة الإمارات، والتي ستركز على الممارسات المستدامة والصديقة للبيئة.
تعمل مبادرة إعادة تدوير البلاستيك في قطر على تحويل البلاستيك إلى منتجات أخرى، مثل الأثاث الخارجي والفواصل الطرقية. ويُرسي مجمع الطاقة الخضراء في عُمان الأسس للاقتصاد الدائري من خلال استخدام مصادر الطاقة المتجددة لإنتاج الكهرباء. وتعتمد السعودية المدن التي لا تنتج أي نفايات لتحقيق هدفها في الاقتصاد الدائري بالاستفادة من أنظمة إدارة النفايات التي تمنح الأولوية لإعادة تدوير النفايات أو تحويلها إلى أسمدة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الاقتصاد الدائري ليس حلاً سهلاً لمشكلة التغير المناخي، بل يجب اعتماد منهجية متكاملة لتحقيق التحول المستدام والعادل نحو الاقتصاد المنخفض الانبعاثات الكربونية. كما يجب أن يعالج الاقتصاد الدائري التحديات الاجتماعية والبيئية، مثل التفاوت في توزيع الموارد وفقدان التنوع الحيوي والتلوث. وإلى جانب ذلك، يجب أن يقترن باستراتيجيات أخرى، بما فيها نشر حلول الطاقة المتجددة وكفاءة استهلاك الطاقة والاستخدام المستدام للأراضي.
وعلى الرغم من الإمكانات الكبيرةالتي يوفرها الاقتصاد الدائري في مجال العمل المناخي، اقتصرت حصته من إجمالي الاقتصاد العالمي على 8.6% فقط في عام 2019 حسب مشروع الفجوة الدائرية، ما يشير إلى ضرورة استخدام حوالي 91.4% من الموارد العالمية أو تعزيز سبل الاستفادة منها.
تواجه دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العديد من التحديات في ما يتعلق باعتماد الاقتصاد الدائري، بما فيها ضعف البنية التحتية والتمويل المحدود والافتقار إلى الوعي بمبادئ الاقتصاد الدائري وعدم فهمها، وعدم كفاية الأطر التشريعية والاستفادة من الحلول التكنولوجية. وقدّر البنك الدولي في عام 2019 بأنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعيد تدوير 5% من النفايات فقط، لتنتهي غالبيتها في مدافن القمامة أو المكبات المفتوحة.
تستطيع حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وضع الإجراءات المتعلقة بالسياسات لديها من خلال تحديد مجموعة من الأهداف الطموحة والعمل على تحقيقها بتقديم المنح وتمويل أنشطة البحث والتطوير ودعم المشاريع التجريبية.
وتُعد سياسة الشراء المستدام من أبرز العوامل في هذا الصدد، وهي سياسة تشير إلى التعاقد على سلع وخدمات تتميز بالفاعلية الاقتصادية وتراعي في الوقت ذاته الأبعاد المتعلقة بالتنمية الاجتماعية وبالحفاظ على البيئة، فضلاً عن تشجيع المنتجات المعاد تصنيعها وحثّ الموردين على الحد من مخلفات مواد التغليف. كما يجب تحفيز الشركات على دمج المنهجيات الدائرية في نماذج الأعمال لديها، مثل مفاهيم المنتج كخدمة والاقتصاد التشاركي وسلاسل التوريد صفرية النفايات، ويُمكن للحملات التوعوية الموجهة للمواطنين والمدارس والمجتمعات المحلية أن تؤدي دوراً محورياً في هذا المجال.
تدرك منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالتدريج أهمية التحول نحو الاقتصاد الدائري، ويتطلب تحقيق إنجاز في هذا المجال تضافر جميع الجهود التي تبذلها الحكومات والشركات ومنظمات المجتمع المدني، فضلاً عن أشكال التعاون الإقليمي والدولي.