من القضايا التي تشغل بال العالم اليوم في ظل التسارع التكنولوجي، مسألة كيف ندير أوقاتنا؟ فكثيراً ما نجد أنفسنا نتساءل فيما لو كان بالإمكان أن يكون يومنا 48 ساعة بدلاً من 24، أو غيرها من هذه الأسئلة الخيالية. ويتسبب هذا النقاش بالضيق لدى فئة من الناس، لدرجة أنهم يقررون الاستسلام والعزوف عن العمل وعجلة الوظيفة التي يرون أنها تستهلكهم، فنسمع عن ظاهرة الاستقالة والتحول للعمل الفردي المستقل في سبيل التغلب على هذه المعضلة. لقد وصل تطور هذا الأمر إلى درجة أنَّ الثواني من وقتنا أصبحت ذات قيمة مادية، وظهر مصطلح "اقتصاد الانتباه"، حيث تتنافس الشركات التجارية وشركات التواصل الاجتماعي والمؤسسات التي نعمل فيها وأولادنا وعائلاتنا للحصول على حصة من هذه الثواني.
ومازالت القصة التي طرحها الكاتب ستيفن كوفي منذ عام 1994 تعد مدرسة في المنهج المتبع في عالم الأعمال منذ ذلك التاريخ، فقد روى كوفي القصة التي كان يريد منها إرسال العبرة في ترتيب الأولويات، وهي أن معلماً دخل الصف على طلابه في أحد الأيام حاملاً بعض الحجارة الكبيرة وبعض الحصى الصغيرة وكيساً من الرمل ووعاءً زجاجياً كبيراً، ثم أعلن التحدي للطلاب؛ كيف يمكننا وضع جميع الحجارة الكبيرة والحصى والرمل معاً في هذا الوعاء. وبعد محاولات الطلاب وضع الرمل ثم الحصى أولاً ليجدوا أن الوعاء لم يعد يتسع للحجارة الكبيرة، توصلوا لوضع الحجارة الكبيرة أولاً، ثم تسريب الحصى الصغيرة بينها ثم تسريب الرمل بين الحجارة الكبيرة والحصى. وهكذا استخلص ستيفن كوفي والعالم حتى اليوم نظرية "ابدأ بالأهم قبل المهم"، حيث اعتبر أن الحجارة الكبيرة هي المهام الكبرى، والحصى هي القضايا ذات الأهمية المتوسطة، والرمل هو الأمور الروتينية المتكررة. وظلت هذه النظرية صالحة حتى عام 2021، حيث ظهر أوليفر بوركمان بكتابه "أربعة آلاف أسبوع" ليشرح لنا عبر هذا الكتاب كيف ندير وقتنا المحدود في الحياة والذي يبلغ معدله لمعظم البشر 4 آلاف أسبوع فقط.
حسناً، ما الذي يريد بوركمان تغييره في نظرية الأهم قبل المهم؟ يعتقد هذا الكاتب أن الحجارة الكبيرة أصبحت في عصرنا أكثر من أن يتسع لها الوعاء الزجاجي أصلاً، ويطرح تحديثاً لنظرية الأهم قبل المهم عبر فكرة يستند فيها إلى خبراء عالم المال والادخار، حيث ينصحون دوماً بأن المبدأ الصحيح في الادخار، هو أن تبدأ به فور استلام الراتب أو المبلغ المالي الذي تحصل عليه، ولا تنتظر حتى تنفق بعضاً من الراتب أو الأموال التي تحصل عليها ثم تقتطع مبلغ الادخار. يعتقد خبراء المال أنك إذا عودت نفسك على اقتطاع مبلغ الادخار، فستتنظم مصاريفك وحياتك بشكل أفضل، لأنك ستتعايش مع فكرة عدم وجود هذا المبلغ المقتطع أصلاً ضمن أموالك الحالية وستتكيف على المصاريف وفقاً لما يتبقى من مبلغ الراتب بعد الاقتطاع.
ويعتقد بوركمان وقبله مدربة الإبداع جيسكيا أبيل، أن تطبيق هذا المبدأ على إدارة أولوياتنا في الوقت سيعني أن نقتطع كل يوم وبشكل مسبق ما نريده للقضايا المهمة، دون أن نسمح للحصى الصغيرة أو الرمل بالتسرب إليها. وتتطابق هذه النظرية مع السعي لحالة التركيز الفائق التي كتب عنها العديد من الكتّاب مؤلفاتٍ بيع منها ملايين النسخ على مستوى العالم نظراً للحاجة إليها، ومنها كتاب "العمل العميق" للخبير كارل نيوبورت، وكتاب "التركيز الفائق" للكاتب كريس بيلي وغيرهما، وكلها تتفق على ضرورة عزل الأحجار الكبيرة أي المهمات الكبيرة عن كل ما حولها من مهمات، كإغلاق كل الصفحات الأخرى في متصفح الإنترنت، وكذلك، وقف تنبيهات الهاتف المحمول، بهدف الوصول إلى حالة التدفق التي ذكرها عالم النفس ميهاي تشيكسنتميهاي عام 1975، ووصف فيها خطوات الوصول إلى حالة الاستغراق في عمل ما أو هواية ما لدرجة يغيب فيها عامل الإحساس بالوقت.
ويمكن اختيار الحجارة الكبيرة التي ستبدأ بها أولاً، وفقاً لعدة مبادئ، وأشهرها برأيي "مصفوفة أيزنهاور" التي تُعرف أيضاً باسم "عاجل - ضروري"، وهي مصفوفة تعتمد على إنشاء جدول لمهامك اليومية تحت تصنيفات ثابتة: "عاجل - ضروري"، "عاجل- غير ضروري"، "غير عاجل- ضروري"، "غير عاجل- غير ضروري".
وقد وصلت حالة الاقتراب بين إدارة المال وإدارة الوقت حداً طبق فيه كتّاب مبدأَ أيزنهاور هذا على إدارة الأموال، مثل كتاب "أوَ كلما اشتهيت اشتريت" للكاتب محمد الجعيدي، وبالعكس، استعان خبراء إدارة الوقت بخبراء المال والادخار في تعلم مبدأ ادخار الوقت تماماً كما ندخر المال.