المحتوى محمي
المحتوى محمي
آراء وخبرات

خطأ نقترفه كلّنا ويُكلّف المليارات

تحتاج الشركات إلى بناء بيئة تُرحّب بالتساؤل والتشكيك الإيجابي وتدعو إليه، وتسمح للموظف بالتشكيك في القرارات غير المبنية على حقائق وبيانات حتى وإن كانت من المدير.

بقلم


money

باسم جفال، مدير للابتكار في شركة علم (Elm) التقنية، متخصص في بناء المبتكرين والبيئة الإبداعية في المؤسسات. (مصدر الصورة: فورتشن العربية)

  • "نريد أن نبني نظاماً يحل المشكلة الفلانية بهذه الطريقة".
  • "ولماذا هذه الطريقة بالذات؟".
  • "قمنا بتطبيق منهجية لإيجاد حلول المشكلات وقابلنا عدداً من أصحاب المشكلة ووجدنا أن هذا هو الحل الأفضل، جربناه ويبدو أنه يعمل"!
  • "لا أعتقد أن هذا الحل جيد، فلنبن الحل بالطريقة الفلانية، أنا متأكد أنها ستحل المشكلة وهي أفضل وأسرع".

هل عرفتم بين أي نوعين من موظفي الشركات عادة ما يكون هذا الحوار؟

في هذا الحوار البسيط ثمة جملة قد تُكلّف الملايين من الدولارات وخسارة عدد كبير من العملاء. هل عرفتموها؟

تعالوا لننطلق إلى الولايات المتحدة الأميركية، وبالتحديد إلى القطاع الصحي هناك، والذي يُعد من القطاعات الصحية المتقدمة على مستوى العالم.

أشار تقرير صادم لمستشفى جون هوبكنز الشهير إلى أن الأخطاء الطبية أصبحت السبب الثالث للوفاة في الولايات المتحدة الأميركية، إذ يموت أكثر من ربع مليون إنسان سنوياً بسبب هذه الأخطاء. يبلغ عدد الأخطاء في التشخيص 12 مليون خطأ سنوي، %28 منها تهدد الحياة. التكلفة السنوية للأخطاء الطبية في الولايات المتحدة الأميركية حوالي 20 مليار دولار.

لا تخلط بين الافتراض والحقيقة

ثمة أسباب كثيرة لهذه الأخطاء المخيفة، لكن هناك سبب خفيّ مشترك وهو الاعتماد على افتراض معين عند اتخاذ القرار دون التأكد من هذا الافتراض.

"الافتراض" حسب تعريف قاموس كامبريدج هو شيء نقبله على أنه صحيح دون دليل ودون تشكيك. مثلاً، قد يستمع الطبيب إلى المريض يصفُ بعض أعراض المرض الذي يعاني منه ثم يبدأ الطبيب مباشرة بالتشخيص دون أن يستمع لباقي الأعراض أو يسأل أكثر، وهنا قد يحدث الخطأ.

السبب في هذه الظاهرة هي طريقة عمل الدماغ، فكلما ازدادت المعرفة والخبرة صار الدماغ يعمل بصورة تُشبه "الطيران الآلي أو التلقائي"، بحيث يحكُم على الأمور بصورة تلقائية ويتخذ القرارات بصورة آلية، وهذا الأمر جيد إلى حد ما ولكنه كارثي في بعض الأحيان.

كلما ازدادت الخبرة قلّ الفضول ومال الدماغ إلى الكسل والخمول. وإذا وضع دماغك في موقف معين، فإنه يرجع إلى سجلات الذاكرة ويحاول أن يأتي بموقف مشابه ليبيّن لك أن الموقفين متطابقان، فتتخذ نفس القرار السابق دون دليل ودون تشكيك، وهنا يكون الوقوع في فخ الافتراضات وتبدأ المشكلة.

في الحوار الذي ذكرناه في بداية المقال، قام المدير باقتراح حل آخر على موظفيه، ظاناً أن لديه ما يكفي من الخبرة والتجربة التي تجعله يتجاوز بيانات وحقائق جمعها الفريق وبنى من خلالها الحل الذي قدّمه.

وهذا السلوك من المدير سلوك مُعتاد في أغلب الشركات والمؤسسات ويأخذ أشكالاً مختلفة، لكن النتيجة واحدة: شخص يتخذ قراراً بناء على ظنّ أو افتراض وهو يعتقد أنه يبنيه على حقائق، قد خدعه الدماغ ووقع في فخ الافتراضات، وهو خطأ يُكلّف الشركة الملايين بل المليارات أحياناً، تماماً كما يحدث مع بعض الأطباء في المستشفيات.

أي رأي أو قرار لا تدعمه البيانات والأدلة والبراهين يظل مجرد رأي مبني على افتراضات، ولا عيب أن نُعطي رأياً أو نتخذ قراراً بناء على حدس أو افتراضات، لكن يجب أن نُدرك ونعي أنه مبني على افتراضات، وأن هذه الافتراضات قد لا تكون دقيقة.

المخيف في الأمر، أن الاعتماد على الافتراضات والخلط بين الافتراض والحقيقة عند اتخاذ القرارات مشكلة خفيّة يصعب رصدها في الشركات بنفس الطريقة التي تحدث في المستشفيات، على الرغم من أنها قد تُكلّف المليارات، وبيئة المؤسسة تُنبئك عن مدى الجرأة في مناقشة مثل هذه المشكلات ومن ثم العمل على تفاديها.

التساؤل والتمحيص يكبح الافتراضات 

نحن في مجال الابتكار نحاول جاهدين أن نتغلّب على ظاهرة الاعتماد على الافتراضات في اتخاذ القرارات وبناء المنتجات وضخ الاستثمارات.

على سبيل المثال، عندما تأتيني وفريقي فكرة لمنتج أو حل جديد، فإننا نطرح الكثير من الأسئلة للتأكد بداية من أننا وأصحاب الحل نفهم المشكلة التي نحاول حلها فهماً عميقاً، من ثَمّ، نضع مجموعة الافتراضات التي بنينا عليها هذا الحل، نكتبها ونناقشها، مثلاً: نحن نعتقد أن هذا الحل سيحل المشكلة تماماً، نحن نعتقد أن العميل سيستخدم الحل المقترح، نحن نعتقد أن العميل سيدفع مقابل هذا الحل، وهكذا. ومن ثم، نتأكد منها واحداً تلو الآخر وفق منهجية واضحة وموثوقة.

رأينا الكثير من الأفكار التي كان أصحابها مقتنعين تماماً بأنها أفكار ابتكارية للغاية، لكن بعد التمحيص ومراجعة الافتراضات التي بنوا عليها هذا الاعتقاد تبيّن العكس، فاستطعنا أن نوفّر الكثير من المال والوقت والجهد على أصحاب الأفكار.

بيئة ترحّب بالتشكيك الإيجابي

تحتاج الشركات عموماً إلى بناء بيئة تُرحّب بالتساؤل "والتشكيك الإيجابي" وتدعو إليه،  وتسمح للموظف بالتشكيك في القرارات غير المبنية على حقائق وبيانات حتى وإن كانت من المدير كما في الحوار الذي ذكرناه. كذلك، تحتاج الشركات والمنظمات إلى مدراء يتقبّلون التشكيك والتساؤل من موظفيهم بل ويدعون إليه، ويرونه سبباً في اتخاذ قرارات أفضل وتجنّب الوقوع في فخ الافتراضات.

وعلى الرغم من تعظيم التراتبية في المجتمع الياباني عموماً وفي شركة تويوتا على وجه الخصوص، إلا أنهم يبنون قراراتهم بناء على التجارب والبيانات وليس على الدرجة الوظيفية، إذ يمكن أن يتقدم موظف بسيط بحل لمشكلة معينة ويتقدّم نائب للرئيس بحل آخر لنفس المشكلة، هناك، يأخذون الفكرة المبنية على تجريب وبيانات -وليس افتراضات- وإن كان صاحبها هو الموظف البسيط، ويتركون فكرة نائب الرئيس.

وجَدَت الأبحاث العلمية أن المعارضات والنقد البنّاء والتساؤلات التي تحدث حول الرأي المطروح، لا سيما إذا كان يعتمد على افتراضات، تساعد في الوصول إلى حلول أفضل، وعلى هذا الأمر قامت تويوتا ببناء ثقافة "المعارضة والتجاذب"، حيث يجعلون تحدي الآراء المطروحة جزءاً مقدساً من ثقافتهم. فالشخص الذي يحاول فرض رأيه ولا يحيط نفسه بفريق من "المعارضين الإيجابيين" ليس له مكان في تويوتا.

نظرية البقدونس

قبل مدة، ابتكرتُ "نظرية البقدونس" لتساعدنا كأفراد على تدريب أنفسنا على التعامل مع الافتراضات في حياتنا عموماً. اقترحَ علي أحد الأصدقاء تغيير اسم النظرية لجعلها أرقى وأكثر جاذبية "نظرية البستاشيو" مثلاً، لكن التسمية لها سبب.

هل جربتَ أن تذهب إلى السوق لشراء البقدونس ووجدت نوعين متشابهين من الأوراق، أحدهما البقدونس والآخر هو الكزبرة؟ هل ستأخذ أياً منهما وتمضي؟ هل أنت مستعد لحرب أهلية عند عودتك للمنزل؟

نظرية البقدونس تقول إن هناك ثلاث خطوات يجب أن تقوم بها قبل اتخاذ قرار مهم مبني على افتراضات، أول شيء عليك فعله هو أن تتوقف وتُدرك أنك على وشك اتخاذ قرار بناء على افتراض فلا تفعل، الخطوة الثانية هي أن تسأل خبيراً -المسؤول عن قسم الخضار- أو تُجرّب -من خلال الشم على سبيل المثال- أو تبحث لترى إن كان ثمة مُلصق باسم الأوراق، ثم بعد أن تجمع ما يكفي من البيانات تتخذ القرار المناسب. نفس هذه الخطوات تستطيع أن تطبّقها عند اتخاذ قرار مهم مبني على افتراضات.

يتخذ الدماغ حوالي 35,000 قرار يومياً، والاعتماد على الافتراضات هو أمر نقوم به كلنا في حياتنا اليومية، لكن ينبغي أن نكون واعين بأن تلك النسبة من القرارات التي قد لا تتجاوز عُشر العُشر بالمائة، والمبنية على افتراضات، تؤثر في حياتنا وحياة الناس من حولنا بشكل مباشر أو غير مباشر.

فالتغلب على مسألة الوقوع في فخ الافتراضات يحتاج إلى إدراك وتدريب من الشخص نفسه، كما يحتاج إلى مساعدة ممن حوله من خلال دعوتهم لتحدي ومناقشة آرائه، ويحتاج أيضاً إلى بناء ثقافة في المؤسسة  تدعو الموظفين للتحلي بالشجاعة والجرأة لتحدي الآراء المطروحة ومناقشتها ولو كانت من المدراء والقيادات العليا.


الوسوم :   الذكاء العاطفي ،  إدارة
image
image