المحتوى محمي
Al-Majarra Al-Majarra Al-Majarra
المحتوى محمي
آراء وخبرات

ماذا تفعل بوينج في جامعة شيفيلد؟ تصورات لربط الجامعات السعودية بالصناعة

هذا المشهد تكشفت معالمه مؤخراً عبر الإعلان غير المسبوق لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي حدد التطلُّعات السعودية لقطاع البحث والتطوير والابتكار للعقدين المُقبلين.

بقلم


money

مقبل العيدان، وكيل التطوير ورئيس قطاع الابتكار وتنمية الأعمال في جامعة الملك فيصل وخبير الأعمال الدولية والاستراتيجيات (مصدر الصورة: فورتشن العربية)

في بيان نشرته على موقعها الإلكتروني في يناير/كانون الثاني من العام 2021، أعلنت جامعة شيفيلد البريطانية عن تجديد شراكتها مع عملاق صناعة الطائرات في العالم، شركة بوينج متعددة الجنسيات، لخمس سنوات قادمة، تستكمل من خلالها مسيرة زمنية تمتد لعقدين من التعاون في مجالات البحث والتطوير والابتكار بين الطرفين. 

تتيح هذه الشراكة لبوينج التموقع في قلب مركز بحوث التصنيع المتقدم أيه إم آر سي (AMRC) التابع للجامعة، والاستفادة من قدراته في تصنيع مكونات وأنظمة تشغيل حديثة لمنتجاتها الرئيسية. هذا التغلغل الكبير لعملاق صناعي بحجم بوينج داخل مؤسسة تعليمية وما يترتب عليه من إنفاق هائل على أنشطة البحث والتطوير والابتكار في الجامعة، يحتم علينا قرع الجرس وطرح السؤال الكبير؛ كيف للجامعات السعودية أن تقترب من الصناعة الوطنية وتسهم في تنميتها؟ ووفق أي سياق وممكنات؟

الإجابة عن هذا السؤال تقتضي النظر بشمولية لمشهد البحث والتطوير والابتكار في المملكة العربية السعودية قبل الخوض في تفاصيل تجسير الفجوة بين الجامعات من جهة والصناعة من جهة أخرى. هذا المشهد تكشفت معالمه مؤخراً عبر الإعلان غير المسبوق لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (رئيس اللجنة العليا للبحث والتطوير والابتكار في المملكة) الذي حدد التطلُّعات السعودية لقطاع البحث والتطوير والابتكار للعقدين المُقبلين، بالاستناد إلى أربع أولويات رئيسية؛ تتمثل في: صحة الإنسان، واستدامة البيئة والاحتياجات الأساسية، والريادة في الطاقة والصناعة، واقتصاديات المستقبل، فضلاً عن الالتزام بإنفاق سنوي طموح على القطاع يصل إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2040.

وبالنظر إلى التوجه نحو تركيز القطاع استراتيجياً على أولويات محددة، مع رفع سقف الإنفاق على نشاطاته والسعي نحو تعزيز تنافسيته على المستوى العالمي، يصبح من الضروري التعامل مع مخرجاته بمعايير الصناعة عوضاً عن المعايير الأكاديمية. فالمعايير الأكاديمية التي تعكسها مؤشرات منها حجم الإنتاج البحثي المنشور في المجلات العلمية المُحكَّمة وعدد الاستشهادات وبراءات الاختراع المسجلة (على الرغم من أهميتها)، لا تنتقل بتأثيرها إلى أوساط أوسع من مجرد مجاميع بحثية ذات اهتمام مشترك، على خلاف معايير الصناعة ومؤشراتها، ومن ذلك؛ الدخل الناتج عن البحث والتطوير، والمنتجات البحثية وبراءات الاختراع والنماذج الصناعية المُتجَّرة، ومشاريع البحث والتطوير المشتركة مع الصناعة، ووحدات البحث والتطوير والابتكار الصناعية التي تستضيفها الجامعات، والوظائف التي يخلقها القطاع. ومن هنا، تأتي حتمية وضرورة التفكير في تصورات تعيد ترتيب واقع العلاقة بين الصناعة والجامعات بما يتفق مع السياق السعودي، وذلك وفق خمسة مسارات رئيسية، هي:

  • مسار الاستثمار الأجنبي المباشر: تستهدف الاستراتيجية الوطنية للاستثمار في المملكة زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر السنوية بأكثر من 20 ضعفاً، وذلك من 17 مليار ريال سعودي (4.5 مليارات دولار) في عام 2019 لتصل إلى 388 مليار ريال سعودي (103.3 مليارات دولار) في عام 2030، في حين تتوزع هذه الاستثمارات المحتملة على 15 قطاعاً، معظمها قطاعات ذات صبغة صناعية، وذلك حسب ما أظهرته منصة "استثمر في السعودية". 

من المؤكد أن هذه الاستثمارات التي تصنف في غالبيتها على أنها استثمارات (Greenfield Investments) أو ما يُعرف باستثمارات الحقول الخضراء، وهي استثمارات ينتج عنها التزام طويل الأمد لأنها استثمارات مستحدثة أو جديدة، ستوجه حيزاً معتبراً من تركيزها على عمليات البحث والتطوير والابتكار، خاصةً تلك التي يقوم نموذج عملها على العلوم والتقنية. الأمر الذي يجعل منها فرصة مثالية واعدة لتحقيق حالة عميقة من التعاون بين الجامعات والمستثمر الأجنبي الصناعي. 

وفي هذا الصدد، سيكون من الملائم جداً أن تطور وزارة الاستثمار آلية تسمح بالجمع بين المستثمرين الأجانب المحتملين والجامعات (قبل وبعد منح ترخيص الاستثمار)، من أجل بناء نموذج تشاركي لدعم عمليات البحث والتطوير والابتكار الخاصة بالمستثمر الأجنبي، على أن تسوّق لذلك كجزء من مجموعة الحوافز التي تقدمها للراغبين بالاستثمار في المملكة. 

هذا التعاون، يجب أن يؤطر وفق مجموعة من المحددات، أهمها توافق طبيعة الاستثمار الأجنبي مع مجال تركيز الجامعة الشريكة، فيمكن أن نرى على سبيل المثال، تعاوناً يجمع مستثمراً في قطاع اللحوم والدواجن المستزرعة مع جامعة الملك فيصل التي ركزت هويتها المؤسسية في مجال الأمن الغذائي، كما يمكننا مشاهدة تعاون في مجال التقنية الحيوية والرعاية الصحية يجمع مستثمراً آخر بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل التي تقود جهود البحث والتطوير الوطنية في هذا القطاع، وبالمثل تحالفاً يجمع جامعة الملك عبدالعزيز الرائدة في أبحاث الهندسة البحرية ومستثمراً في مجال بناء وإصلاح السفن الترفيهية. شراكات على هذا المستوى من شأنها أن تسهم في تطوير المستثمر الأجنبي الصناعي لمرافق، وتسهيلات بحثية متقدمة في جامعاتنا، على شكل معامل تصنيع رقمية، ووحدات معالجة، ووحدات للقياس والاختبار، ومراكز للتصميم والنماذج الأولية وغيرها.

  • مسار المدن الصناعية: بالنظر إلى الاهتمام المتزايد الذي تمنحه المملكة للتجمعات الصناعية من خلال إنشائها الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية "مدن"، والتي تُشرف اليوم على36 مدينة صناعية منتشرة حول المملكة، يُصبح من غير الطبيعي تقبّل حقيقة غياب الجامعات السعودية عن هذه المدن واختفاء مساهماتها الموجهة للقاطنين بها من مُصنِّعين ينشطون في صناعات وأسواق مختلفة. 

وهنا، يتبادر إلى الذهن فكرة يسهم تبنيها في توفير وصول سهل وترسيخ موطئ قدم دائم للجامعات داخل المدن الصناعية، حيث يمكن لهيئة مدن أن تنشئ في مدنها مراكز متخصصة لدعم عمليات البحث والتطوير والابتكار للمستأجرين، على أن تُسند صلاحية إدارتها وتشغيلها وتقديم خدماتها للجامعات التي تنتمي إلى المحيط الجغرافي لكل مدينة صناعية. فمثلاً، من الممكن أن يصبح لدينا مركز جامعة القصيم للبحث والتطوير والابتكار في المدينة الصناعية الأولى بالقصيم التي تنشط في 15 صناعة منها الصناعات الغذائية والصيدلانية وصناعة الورق والخشب، والقياس نفسه ينسحب على جامعات أخرى.

وجود هذه المراكز في قلب المدن الصناعية سيحقق للمصنعين فرصة الاستفادة من خدمات تجريب وتصنيع أولي ونمذجة وقياس ومعايرة وتنبؤ وتحاليل جودة ذات موثوقية عالية. كما ينسجم إنشاء هذه المراكز مع إحدى مبادرات الاستراتيجية الوطنية للصناعة التي تستهدف تحويل مراكز البحث والتطوير القائمة (ومنها المراكز التابعة للجامعات) إلى مراكز تطبيقية لتقديم الدعم الفني وتطوير التطبيقات الصناعية.

  • مسار الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسطة: من المتعارف عليه أن السواد الأعظم من الشركات الصناعية صغيرة ومتوسطة الحجم لا تخصص فِرقاً أو أقساماً داخلية للبحث والتطوير لأسباب تتعلق بحجمها وعدم قدرتها على الإنفاق المستمر على هذا النوع من العمليات. ولذلك، تلجأ الكثير من الدول عبر منظمات حكومية لربط هذه الشركات بفرق خارجية متخصصة تلبي احتياجها من البحث والتطوير والابتكار.

في أستراليا، تقوم منظمة الكومنولث للبحوث العلمية والصناعية (CSIRO) بخدمة المصنعين الصغار ومتوسطي الحجم ودعمهم بخبراء لتسريع عمليات تصميم واختبار وتطوير المنتجات الجديدة. هذا النموذج يستحق أن تنظر إليه هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار في المملكة بعناية شديدة، وتعمل على تطويره بما يتسق مع ظروف ومقتضيات هذه الفئة من المصنعين المحليين بالتعاون مع وزارة الصناعة. لاسيما أن الأخيرة قد حددت وبشكل واضح في الاستراتيجية الوطنية للصناعة توجهها نحو "إنشاء مراكز ابتكار خاصة بالقطاعات الناضجة لتلبية الاحتياجات البحثية للشركات الصغيرة والمتوسطة، لتقدم خدمات البحث والتطوير مدفوعة الأجر". ما يجعل هناك فرصة مواتية للجامعات لتغطية هذه الفجوة من خلال إدارة وتشغيل هذه المراكز.

  • مسار مجالس الأعمال الأجنبية: حددت لائحة مجالس الأعمال السعودية الأجنبية هدفها الأساسي في "تعريف ممثلي كل دولة بمناخ وفرص الاستثمار المباشر وغير المباشر في الدولة الأخرى، والعمل على تقوية دور المملكة بوصفها مركزاً تجاريّاً". هذا الهدف، وإن كان اقتصادياً صِرفاً في مفهومه، إلا أنه يتيح للجامعات مساحة ودوراً للمساهمة في تحقيقه من خلال ما تمتلكه من منظومة للبحث والتطوير والابتكار.

يمكن للجامعات أن تسهم بفعالية في إزاحة المخاوف المشروعة لمستثمري الدول الأعضاء في تلك المجالس تجاه الاستثمار الصناعي في المملكة، إذا ما ترتب على ذلك تدويل لعمليات البحث والتطوير ونقلها للمملكة وما ينتج عن ذلك من مخاطر مرتفعة. الأمر الذي يدفعنا لطرح فكرة إمكانية دخول الجامعات لهذه المجالس تحت تصنيف "عضو مراقب"، وبما يسمح لها بالحصول على فرص تعاون صناعي ناتجة عن النقل الجزئي (Partial Offshoring) لعمليات البحث والتطوير لمستثمري دول مجالس الأعمال الأجنبية للمملكة. فوجود الجامعات بتمثيل رسمي في هذه المجالس وحضور اجتماعاتها واستقبال وفودها سيجعلها في موقع تفضيلي لاقتناص الكثير من فرص التعاون، ليس في المجال الصناعي فحسب، وإنما في جميع المجالات، مع إمكانية تطوير سياسة توفق بين اهتمامات كل جامعة وطبيعة الاستثمارات التي يتيحها كل مجلس، بما يجعل حضور كل جامعة محصوراً في مجلس بعينه. 

  • مسار مراكز البحوث الانتقالية: يلحظ المتتبع لنشاط المراكز البحثية في الجامعات السعودية بوضوح تام تبنيها في الغالب لمنهجية لا تختلف كثيراً عن تلك التي تتبناها الكليات من حيث التركيز المكثف على النشر العلمي بالدرجة الأولى، ما يعقد من احتمالية انتقال مخرجاتها إلى السوق ويقلل من حظوظ استفادة الصناعة منها. ما يعني، أن هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في النموذج التشغيلي لهذه المراكز وتحويلها تدريجياً إلى ما يعرف بمراكز البحوث الانتقالية (Translational Research Centers) التي تعمل وفق منهجية "من المعمل إلى السوق"، من خلال تطبيق المعرفة المكتسبة عبر البحوث الأساسية في تطوير منتجات جديدة. 

عالمياً، يطور مركز بحوث التغذية والغذاء الانتقالي في كلية لندن الإمبراطورية بالتعاون مع الصناعة، رؤى جديدة حول أنواع المحاصيل التي ترتبط بأنواع معينة من النشاء المقاوم لتوفير أفضل حماية ضد عيوب إفراز الأنسولين، ومحلياً، يطور مركز بحوث تحلية وإعادة استخدام المياه الانتقالي بجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تقنيات حديثة لتحسين عمليات تحلية مياه البحر وتحسين مراقبة عمليات محطات تحلية المياه من خلال الذكاء الاصطناعي والنمذجة بالتعاون مع شركة أكوا باور. مثل هذه التجارب يجب أن تحفزنا لتطوير استراتيجية شاملة للمراكز البحثية في جامعاتنا تستهدف تحويل الرئيسي منها إلى مراكز انتقالية في توجهها، وبما يخدم صناعات محددة مستهدفة ضمن خطط تنمية المحتوى المحلي للمملكة، ومن ذلك الصناعات العسكرية، وصناعات السيارات، وصناعات الدواء والغذاء التحويلية. 


image
image