كان الانهيار التاريخي لبنك سيليكون فالي (Silicon Valley Bank) صادماً حتى لأولئك الذين شهدوا عقوداً من تقلّبات السوق، وذلك نظراً لسرعة الانهيار وشدّته، إذ كان بنك سيليكون فالي حتى يوم الأربعاء الماضي مؤسسة ضخمة في وادي السيليكون عمرها 40 عاماً وتوفّر خدمات مصرفية لما يقرب من نصف الشركات الناشئة هناك حسب بعض التقديرات، لكن سرعان ما تغيّر الحال.
أغلقت الجهات التنظيمية في ولاية كاليفورنيا البنك يوم الجمعة. والآن، تحاول الشركات الناشئة وأصحاب رؤوس الأموال المغامرة والمحللون استيعاب أسباب هذا الانهيار ونتائجه، ولماذا لم يتمكن أحد من إيقافه، وما هي الشركات والبنوك والأطراف المهدّدة بالخطر إثر ذلك.
ما هي تفاصيل حالة الذعر المصرفي (السحب غير الاعتيادي للودائع) التي أصابت بنك سيليكون فالي؟
شكّل إعلان شركة إس في بي فايننشال (SVB Financial)، وهي الشركة الأم لبنك سيليكون فالي المنهار، في 8 مارس/آذار، عن نيّتها تعزيز مركزها المالي صدمة للكثيرين. إذ قالت الشركة إنها باعت كامل محفظتها من الأوراق المالية تقريباً، والتي تبلغ قيمتها 21 مليار دولار، وذلك بخسارة تقارب 2 مليار دولار، وأضافت إنها تسعى لجمع 2.25 مليار دولار من خلال طرح أسهم للبيع بقيمة 1.75 مليار دولار. ووافقت شركة الأسهم الخاصة جنرال أتلانتيك (General Atlantic) أيضاً على شراء أسهم بقيمة 500 مليون دولار. وشارك بنك غولدمان ساكس بصفة ضامن في عملية بيع الأسهم بقيمة 2.25 مليار دولار، لكن ليس ضمن صفقة محفظة الأوراق المالية.
وأوضحت شركة إس في بي لاحقاً في بيان صدر في 10 مارس/آذار إن عملية بيع الأسهم بقيمة 2.25 مليار دولار قد توقّفت. ورفضت شركة جنرال أتلانتيك وبنك غولدمان ساكس الإدلاء بأي تعليقات. وأثارت محاولات بيع الأسهم هلع مجتمع رؤوس الأموال المغامرة، إذ سحب العديد من الصناديق أمواله من بنك سيليكون فالي.
ونصحت مجموعة من صناديق تمويل رؤوس الأموال الاستثمارية المغامرة، مثل صندوق فاوندرز فاند (Founders Fund) الذي أسسّه بيتر ثيل ويونيون سكوير فينتشرز (Union Square Ventures) وكوتو مانجمنت (Coatue Management)، شركاتها بسحب أموالها من بنك سيليكون فالي لتجنب الوقوع في فخ فشل مصرفي محتمل، وذلك حسب ما ذكرته شبكة سي إن بي سي (CNBC). وانتهى الأمر بسحب المستثمرين والمودعين ودائع بقيمة 42 مليار دولار من بنك سيليكون فالي، ما تسبّب في إنهاء أعمال البنك يوم 9 مارس/آذار برصيد نقدي سلبي يبلغ نحو 958 مليون دولار، وذلك وفقاً لتصريحات من مفوّض إدارة الحماية المالية والابتكار (Financial Protection and Innovation) في 10 مارس/آذار.
وانخفض سهم بنك سيليكون فالي بنسبة 60% يوم الخميس ليغلق عند سعر 106.04 دولارات في نهاية التداولات. ولم تستجب شركتا فاوندرز فاند ويونيون سكوير لطلبات التعليق. أما شركة كوتو، فقد رفضت التعليق. ولم يستجب بنك سيليكون فالي أيضاً لطلب التعليق.
وانتشرت يوم الجمعة شائعات عن أن بنك سيليكون فالي يبحث عن مشترٍ. وعلى الرغم من ذلك كلّه، لم يكن متوقعاً أن تهتم البنوك الكبرى به بسبب محفظة القروض الخاصة بالبنك، والتي تميل بشدة نحو رؤوس الأموال المغامرة. فقد شكّل رأس المال الاستثماري المغامر أو الأسهم الخاصة نحو 56% من المحفظة المصرفية العالمية للبنك في عام 2022، وذلك وفقاً لما نقلته فورتشن (Fortune) عن التقرير السنوي لشركة إس في بي فايننشال لعام 2022.
لكن ما حدث يوم الجمعة هو أن إدارة الحماية المالية والابتكار في كاليفورنيا قد أغلقت بنك سيليكون فالي ووضعته تحت الحراسة القضائية للوكالة الفيدرالية للتأمين على الودائع (Federal Deposit Insurance Corp). وأنشأت الإدارة البنك الوطني للتأمين على الودائع في سانتا كلارا (Deposit Insurance National Bank of Santa Clara)، وهو بنك مؤقت.
وسوف تتخلّى الوكالة الفيدرالية للتأمين على الودائع عن أصول بنك سيليكون فالي بصفتها الحارس القضائي للبنك، وذلك وفقاً لبيان منها. وأوقفت بورصة ناسداك سهم البنك يوم الجمعة، حيث تعتبر البورصة الحراسة القضائية من الوكالة الفيدرالية للتأمين على الودائع بمثابة إفلاس. وبلغت قيمة أصول البنك بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي 2022 نحو 209 مليارات دولار وفقاً للوكالة الفيدرالية للتأمين على الودائع.
وهذا يعني أن انهيار البنك هو أكبر فشل مصرفي منذ عام 2008 عندما انهارت شركة واشنطن ميوتشوال (Washington Mutual) التي بلغت قيمة أصولها 307 مليارات دولار، وانتهى الأمر بشراء بنك جيه بي مورغان شركة واشنطن ميوتشوال بقيمة 1.9 مليار دولار. وكان بنك سيليكون فالي يبحث عن مشترٍ حتى بعد ظهر يوم الجمعة. وأفادت وكالة بلومبرغ أن الصفقة قد تتضمن بيع أصول الشركة بشكل تدريجي أو كلّي. وأوضحت إن الهدف هو إتمام الصفقة بحلول يوم الاثنين.
لماذا لم يتدخل أحد لإنقاذ بنك سيليكون فالي؟
شاعت بين يومي الخميس والجمعة تخمينات بتدخّل فارس أبيض للاستحواذ على بنك سيليكون فالي، ليجعل قصته نسخة جديدة من استمرار بنك ميريل لينش (Merrill Lynch) بعد إفلاسه بدلاً من أن تصبح عبرة مثل قصة بنك ليمان (Lehman)، ويشير مصطلح الفارس الأبيض إلى الشركات التي تتدخّل بصفة مستثمر صديق للاستحواذ على الشركة المستهدفة وحماية مصالحها، وذلك بدلاً من وقوعها ضحية عملية استحواذ عدائي من مستثمر منافس (يطلق عليه لقب الفارس الأسود).
يبدو أن بنك سيليكون فالي سيسلك في أفضل الحالات مساراً شبيهاً بمسار شركة واشنطن ميوتشوال. وكان من المتوقَّع أن يهتم العديد من البنوك بالاستحواذ على بنك سيليكون فالي، إذ قال أحد الرؤساء التنفيذيين لشركة رأس مال مغامر: "يتمتع بنك سيليكون فالي بميزانية عمومية ممتازة، لكنه يواجه أزمة ذعر مصرفي". وأوضح ثلاثة مسؤولين تنفيذيين من بنوك وشركات رأس مال مغامر إن أفضل مشترٍ محتمل هو بنك جيه بي مورغان (JPMorgan)، والذي يعد أحد أكبر البنوك في العالم التي تشتري شركات التكنولوجيا المالية.
وأضافوا إن بنكَي سيتي (Citi) وويلز فارغو (Wells Fargo) هما مشتريان محتملان أيضاً. لكن لم يُحدّد من هو المشتري النهائي حتى يوم الجمعة. وقال أحد المسؤولين التنفيذيين المذكورين لفورتشن: "لن تشارك البنوك الكبرى في أزمة بنك سيليكون فالي. سيؤدي ذلك إلى الوقوع في مشاكل الدَين في عالم رأس المال المغامر".
هل يعقل أننا وصلنا إلى عام 2023 ولم تعثر الجهات التنظيمية على أي وسيلة لإيقاف الذعر المصرفي وعمليات السحب غير الاعتيادية للودائع؟
على الرغم من أنك قد تفترض وجود روبوت ذكاء اصطناعي قادر على إيقاف عمليات السحب غير الاعتيادية، لكن البعض يعتقد بأن العكس هو الصحيح، فقد تؤدي المنصات الرقمية المخصّصة لعمليات السحب ووسائل التواصل الاجتماعي إلى زيادة الهلع. فخلال معظم حالات الذعر المصرفي السابقة وعمليات السحب الذي رافقها، كان على المودعين على الأقل الحضور شخصياً (أو الاتصال في حالات أخرى) لطلب استرداد أموالهم، ما أدى إلى إطالة وقت العملية إلى حد ما.
كما أن هناك الكثير من القوانين التي تنظّم عمل البنوك إلى جانب 50 وكالة حكومية والعديد من الوكالات الفيدرالية المتخصصة في ذلك. وهناك أيضاً الوكالة الفيدرالية للتأمين على الودائع، والتي أُنشِئت في عام 1933 للتأمين على الودائع والمدخرات في البنوك الأميركية في حالة إفلاس البنوك، وتوفّر الوكالة هذه الخدمات حتى 250,000 دولار لكل صاحب حساب. لكن الطريقة الرئيسية التي يحاول بها المنظّمون منع حالات الذعر المصرفي تتمثّل بإجراءات وقائية قبل حدوثها.
وهناك أيضاً الأفكار المرتبطة بقانون دود فرانك لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك (Dodd-Frank Wall Street Reform and Consumer Protection Act)، وهو قانون صدر بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 لمنع الإفراط في المخاطرة الذي أدى سابقاً إلى انهيارات مثل حالات بنك ليمان براذرز وشركة واشنطن ميوتشوال. وسُنَّ هذا القانون لمنع حالات الانهيار المشابهة لما يحصل مع بنك سيليكون فالي. لكن الخطأ هنا قد يكمن في البنوك الصغيرة نفسها، والتي اشتكت بعد دخول قانون دود فرانك حيز التنفيذ من أن القوانين المشدّدة كانت مكلفة للغاية بالنسبة لها، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن الفيدرالي الأميركي في فيلادلفيا (Federal Reserve Bank of Philadelphia).
وفي عام 2018، وقّع الرئيس دونالد ترامب مشروع قانون يرفع الحد الأدنى الذي يجب على البنوك تحقيقه حتى تصبح مؤسسات مالية مؤثرة على النظام العالمي (systemically important financial institution) أو (SIFI) من ناحية قيمة الأصول من 50 مليار دولار إلى 250 مليار دولار، ويشير هذا القانون إلى أنّ البنك سيخضع في هذه الحالة لاختبار القدرة على تحمل الضغوط والمتطلبات التنظيمية الأخرى.
وفي عام 2015، حثّ الرئيس التنفيذي لبنك سيليكون فالي، غريغ بيكر، الحكومة الأميركية على زيادة الحد الأدنى لتلك الصفة بحجة أن عدم القيام بذلك سيؤدي إلى ارتفاع التكاليف المترتّبة على العملاء و"تعطيل قدرة البنك على توفير الائتمان لعملائه"، وذلك حسب ما ذكرته وكالة بلومبرغ. وبلغت قيمة أصول البنك نحو 212 مليار دولار بحلول ديسمبر/كانون الأول 2022، مقارنة بقيمتها البالغة 56.9 مليار دولار في نهاية عام 2018، ما يعني أن البنك قد أُعفي من القوانين المشدّدة.
وهناك أيضاً اتفاقيات بازل (Basel Accords)، وهي إطار تنظيمي دولي جرى تطويره لضمان امتلاك البنوك احتياطياتٍ نقدية كافية للوفاء بالتزاماتها المالية والنجاة في حال مواجهة ضائقة مالية واقتصادية، وذلك وفقاً للمعهد المالي للشركات (Corporate Finance Institute). وأكّد الفيدرالي الأميركي في سبتمبر/أيلول 2022 التزامه بمعايير اتفاقية بازل الثالثة (Basel III)، والتي تُلزِم البنوك بالحفاظ على مستويات مرتفعة من رأس المال والسيولة، وذلك وفقاً لتقرير من شركة بي دبليو سي (PwC).
وقالت صحيفة فايننشال تايمز إن البنوك الأوروبية كانت مطالَبة بتنفيذ اتفاقية بازل 3، لكن أكبر البنوك الأميركية فقط هي التي كانت تخضع لمتطلبات السيولة الكاملة حسب اتفاقيات بازل، والتي تشمل معايير مثل نسبة صافي التمويل المستقر (NSFR). لذا لم يضطر بنك سيليكون فالي للالتزام باتفاقية بازل الثالثة، وقال البنك في أحدث إبلاغ مالي (10K) له: "نظراً لأننا شركة من الفئة الرابعة (Category IV organization) بإجمالي أصول موحّدة بقيمة 250 مليار دولار، وتمويل جملة قصير الأمد أقل من 50 مليار دولار، ونشاط عابر للولايات القضائية أقل من 75 مليار دولار، فإننا لا نخضع حالياً لمتطلبات نسبة تغطية السيولة (LCR) أو نسبة صافي التمويل المستقر الخاصة بالفيدرالي الأميركي، سواءً على أساس كامل أو مخفّض".
وتعج المجلات الأكاديمية بمقالات حول كيفية حماية النظام المالي بشكل أفضل من حالات الذعر المصرفي. ولكن يبدو عموماً أن الأحاديث تدور بين "الحاجة إلى مزيد من التنظيم" و"التنظيم مكلف للغاية ويعرقل القدرة التنافسية".
إذاً ما الذي يمكن أن يستعيده المودعون من بنك سيليكون فالي؟
أوضحت صحيفة وول ستريت جورنال إن نحو 89% من التزامات بنك سيليكون فالي تقريباً في صورة ودائع. وهذه النسبة أعلى من بعض البنوك الكبرى، مثل بنك أوف أميركا (Bank of America) الذي تشكّل الودائع 69% من التزاماته. وقالت الصحيفة إن نقص عمليات الطرح للاكتتاب العام الأولي في البورصة يعني أن عملاء بنك سيليكون فالي لم يحصلوا على أموال جديدة من عمليات الطرح تلك أو من الجولات التمويلية. كما انخفض إجمالي الودائع بنسبة 9% تقريباً إلى 173.1 مليار دولار في نهاية عام 2022 وفقاً لتقرير بنك سيليكون فالي السنوي.
وقالت الوكالة الفيدرالية للتأمين على الودائع يوم الجمعة إن جميع المودعين المؤمَّن عليهم سيتمكنون من الحصول على كامل ودائعهم المؤمّنة في موعد لا يتجاوز صباح يوم الاثنين 13 مارس/آذار الحالي. ومع ذلك، فإن معظم ودائع بنك سيليكون فالي غير مؤمَّنة. إذ أوضح البنك في تقريره السنوي لعام 2022 إن إجمالي الودائع قد بلغ 173.1 مليار دولار بحلول نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول 2022، لكن نحو 88% منها، أي نحو 151.5 مليار دولار، غير مؤمّّنة.
وقالت الوكالة إنها ستدفع للمودعين غير المؤمَّن عليهم توزيعات أرباح مسبقة خلال الأسبوع المقبل، وسيحصلون أيضاً على شهادة حراسة قضائية للمبلغ المتبقّي من أموالهم غير المؤمَّنة. وورد في البيان أيضاً إن المودعين غير المؤمَّن عليهم قد يحصلون أيضاً على توزيعات أرباح مستقبلية بعد بيع الوكالة أصول بنك سيليكون فالي.
من هي البنوك الأخرى المعرّضة للخطر؟
تشير الآراء إلى احتمال مواجهة بنوك أخرى مصيراً مشابهاً مع انتشار تداعيات انهيار بنك سيليكون فالي في السوق، وذلك بشكل مشابه لما حصل في الأزمة المالية العالمية عام 2008.
إذ أثّر انهيار بنك سيليكون فالي على البنوك الأخرى يوم الجمعة، في حين أن العديد من المؤسسات الكبيرة، مثل البنوك التي تمتلك ودائع أكثر تنوعاً، قد بقيت آمنة بمعزل عن الآثار. وانخفضت أسهم بنك فيرست ريبابليك (First Republic Bank) بنسبة 15% تقريباً يوم الجمعة، وهو بنك وشركة ثروة بلغ إجمالي أصولها المصرفية 212.6 مليار دولار بحلول 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي (2022)، بينما انخفض سهم شركة ويسترن آليانس بانكورب (Western Alliance Bancorp) بنسبة 21%، وهي شركة قابضة مصرفية إقليمية تبلغ قيمة أصولها أكثر من 65 مليار دولار.
وحاول كلا البنكين تهدئة المستثمرين يوم الجمعة من خلال طمأنتهم بأن السيولة والودائع ما تزال قوية. وفي المقابل، ارتفعت أسهم بنك جيه بي مورغان بأكثر من 3% لتغلق عند 133.65 دولاراً، بينما انخفض سهم بنك أوف أميركا بمقدار 27 سنتاً إلى 30.27 دولاراً، وارتفع سهم بنك ويلز فارغو بمقدار 30 سنتاً ليغلق عند 41.36 دولاراً يوم الجمعة.
وتتمثل إحدى نتائج انهيار بنك سيليكون فالي في تأثيره على الشركات الناشئة التي تمتلك أصولاً أو ودائع لدى البنك، وفقاً لكبير المحللين في أبحاث أسهم شركات التكنولوجيا المالية في شركة ميزوهو سيكيوريتيز يو إس أيه (Mizuho Securities USA)، دان دوليف. إذ قال: "لا نعرف بعد حجم الآثار التي ستلحق بالشركات الناشئة". وإن شركات إتسي (Etsy) وروكو (Roku) وروبلوكس (Roblox) ليست إلا قلَة من الشركات التي أعربت عن تأثرها بأزمة انهيار البنك حتى الآن. ومن المؤكد أنها لن تكون الوحيدة، وذلك ما سنعرفه في الأيام المقبلة.