ربما تكون أوروبا، التي شهدت ارتفاعات هائلة في الأسعار، قد وصلت إلى نقطة انعطاف في صراعها للسيطرة على التضخم المتصاعد.
إذ أبلغت ألمانيا عن انخفاض أسعار السلع الصناعية التي يدفعها المنتجون بنسبة 4.2% من سبتمبر/أيلول إلى أكتوبر/تشرين الأول بعد انخفاض تكاليف الطاقة، وتعتبر ألمانيا أكبر اقتصاد في القارة وتمثل نحو خُمس إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. وذكر مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني (German statistics office) يوم الاثنين أنّ "هذا قد كان أول انخفاض شهري منذ مايو/أيار 2020، إذ انخفضت أسعار الطاقة بمعدل 10.4%، ويرتبط الانخفاض المقصود أساساً بانخفاض أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي".
وقد ارتفعت أسعار المنتجين سابقاً بمعدل شهري بلغ 2.3% في سبتمبر/أيلول و7.9% في أغسطس/آب، وهي أعلى زيادة منذ بدء توثيق هذه الأسعار في عام 1949. وباعتبار أن الشركات مستهلكة شرهة للمواد الخام والمواد الأولية الأساسية والموارد الأخرى التي تتراوح من النفط الخام إلى الصلب المُغلفن (المطلي بالزنك)، فإن أي ارتفاع في التكاليف سوف ينعكس على الشركات الوسيطة (المستهلِكة) وفي النهاية على المستهلك أينما كان ذلك ممكناً لحماية أرباح الشركات، وهذا ما يجعل أسعار المنتجين مؤشراً رئيسياً للتضخم.
وباعتبار أن ألمانيا هي قطب التصنيع في القارة الأوروبية، فقد ترتّب عليها أن تتحمل وطأة هذه التكاليف الباهظة بعد أن أوقفت روسيا توريد الغاز الطبيعي بعد العقوبات الغربية. كما أدّى بحث أوروبا اليائس لتأمين موارد غاز بديلة والحفاظ على توريد الطاقة إلى لجوئها للمزايدة على الأسعار العالمية للغاز الطبيعي المسال.
ودفعت إثر ذلك أسعاراً أعلى لدول مثل الولايات المتحدة أو قطر لتزويدها بالغاز الطبيعي المسال. كما سارع مسؤولو الاتحاد الأوروبي لضمان امتلاء مخازن الغاز في أشهر الصيف الحارة عندما كان الطلب على الغاز في القارة منخفضاً بطبيعة الحال، وقد تحقق هدف ملء مخازن الغاز بنسبة 80% في شهر أغسطس/آب، إذ كان مقرراً تحقيقه في نوفمبر/تشرين الثاني، كما بلغت أسعار المنتجين في ألمانيا ذروتها في نهاية أغسطس/آب.
وكان الطلب أقل بكثير من التوقعات بفضل ارتفاع درجات الحرارة في شهر أكتوبر/تشرين الأول إلى مستويات قياسية في القارة، وهذا يعني أن مخازن الاتحاد الأوروبي قد شارفت على الامتلاء، إذ وصلت سعات التخزين حالياً إلى 95%. وقد تسبب هذا الامتلاء في انخفاض سعر الغاز من أعلى مستوياته في الصيف باعتبار أن الاتحاد الأوروبي لن يخزّن مزيداً من الإمدادات.
لكن ماذا بشأن التضخم؟
على الرغم من الأخبار المفائلة، يُتوقَّع أن تبقى معدلات التضخم السنوية مرتفعة بشكل ملحوظ حتى شهر مارس/آذار المقبل على الأقل، باعتبار أنها سوف تُقارَن بمعدلات الشهر نفسه من العام الماضي التي قيست قبل أن تبدأ الأسعار في الارتفاع بشكل حاد بعد بدء الأعمال العدائية الروسية في أوكرانيا.
وهذا ما يفسر ارتفاع أسعار المنتجين في ألمانيا بمعدل 35% تقريباً على أساس سنوي في الشهر الماضي، حيث تسبّبت أزمة الطاقة أيضاً في رفع تكلفة الأمونيا بما يقرب من ثلاثة أضعاف، وهي مادة خام رئيسية للأسمدة التي تُصنَع باستخدام الغاز الطبيعي.
كما ارتفعت أسعار المنتجين بنسبة 14% عن أكتوبر/تشرين الأول الماضي (2021) و0.4% مقارنة بالشهر السابق بعد تعديل أسعار الطاقة، وذلك وفقاً لمكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني وبذلك يتضح أن المحللين يراقبون تقلّبات الأسعار على أساس شهري.
وسوف تنشر أوروبا تقديراً أولياً لتضخم أسعار المستهلكين لشهر نوفمبر/تشرين الثاني في نهاية الشهر الحالي، لكن هذا لن ينعكس فوراً على السوق نظراً لأن تأثير انخفاض أسعار المنتجين يستغرق وقتاً قبل أن يتّضح للمستهلكين العاديين، لذا فإن أسعار المستهلكين ستستمر في الارتفاع. وقد سجّل مؤشر أسعار المستهلكين رقماً قياسياً في شهر أكتوبر/تشرين الأول بلغ 10.6% في منطقة اليورو على أساس سنوي.
وتوقّعت المفوضية الأوروبية في وقت سابق من هذا الشهر أن تتراجع أسعار المستهلكين إلى 6.1% العام المقبل مقارنة بـ 8.5% المتوقعة في 2022، وذلك في دول منطقة اليورو العشرين التي تشترك بالعملة الموحدة، بما فيها كرواتيا التي من المقرر أن تنضم في يناير/كانون الثاني المقبل. لكن مع ذلك، تبقى هذه النسبة أعلى بكثير من النسبة التي يستهدفها البنك المركزي الأوروبي على المدى المتوسط والتي تبلغ 2%.