سلّم الوفدان اللبناني والإسرائيلي يوم الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول إلى الوسيط الأمريكي في المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بين الطرفين، توقيعيهما على اتفاق الترسيم في مقر اليونيفيل بالناقورة جنوب لبنان. وجاء الاتفاق على شكل رسالتين منفصلتين لأن الوفدان لم يلتقيا بشكل مباشر.
ودعا لبنان الوسيط الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكستين في يونيو/حزيران الماضي، بعد وصول وحدة إنتاج الغاز الطبيعي المسال وتخزينه "إنرجيان باور" (Energean Power)، إلى حقل "كاريش" للغاز المتنازع عليه، والتي وتّرت المنطقة بعد سيل من التصريحات العنيفة بين الأطراف اللبنانية والإسرائيلية.
كانت إسرائيل تقول إن الحقل جزء من منطقتها الاقتصادية المعترف بها من الأمم المتحدة، بينما أصرت أطراف لبنانية على أن الثروة الهائلة الموجودة قبالة سواحل بلدهم هي ملك لهم و"هي الأمل المتبقي لإنقاذ لبنان من الانهيار"، ومنهم أمين عام حزب الله حسن نصر الله.
ورغم أن الاتفاق النهائي الذي رحبت به الأمم المتحدة والولايات المتحدة وعدة دول أخرى لم يحقق كامل الطموح اللبناني، لكن الطرفان اعتبراه انتصاراً، حيث اعتبر رئيس لبنان ميشال عون الاتفاق هديةً منه للشعب اللبناني، بينما أكد أمين عام حزب الله اللبناني حسن نصرالله "أن ما حصل من البداية إلى النهاية، إلى النتائج، هو انتصار كبير وكبير جداً للبنان".
بدوره، قال رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد إن "إسرائيل حققت إنجازاً اقتصادياً بعد بدء ضخ الغاز من حقل كاريش" الذي بات من حقها، مشيراً إلى أن اسرائيل ستحصل على حصة من غاز حقل قانا أيضاً الذي بات من حصة لبنان لكن يبدو أنه ليس كاملاً.
لكن إلى ماذا أفضى الاتفاق النهائي؟
للتذكير، فقد دارت المفاوضات بين الطرفان حول حقل قانا غير المكتشف الذي يتجاوز الخط 23، بعد رفض اسرائيل التفاوض حول حقل كاريش والخط 29، وبموجب الاتفاقية الجديدة بات الخط 23 يشكل حدود المياه الاقليمية بين الطرفين، باستثناء منطقة قريبة من الشاطئ اللبناني بمساحة بين 5 إلى 6 كيلومترات مربعة بقيت غير محسومة لكنها تحت السيطرة الاسرائيلية لقربها من ساحلها الشمالي.
لم تحصل لبنان على كامل الحق بقانا تماماً، فبحسب لابيد ستحصل اسرائيل على 17% من أرباح غاز الحقل، بينما وفقاً لـ بي بي سي، ستقوم شركة توتال الفرنسية التي ستنقب هناك عن الغاز، بتعويض تل أبيب عن حصتها في حقل قانا خارج الخط 23 من أرباحها الخاصة وليس من أرباح لبنان.
بداية التوتر
في 2013، قال وزير الطاقة اللبناني في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل إن "اسرائيل اكتشفت حقلاً جديداً للغاز أسمته كاريش يبعد حوالي 4 كيلومترات عن الحدود اللبنانية وتحديداً عن البلوك رقم 8 العائد للبنان وستة كيلومترات عن "البلوك رقم 9" والبئر التجريبي الذي حفرته يبعد حوالي 15 كيلومتراً"، مضيفاً "لا نريد أن نقول إن هناك كارثة قد وقعت ولكن أصبح هناك إمكانية تقنية قائمة فإذا بدأت إسرائيل الإنتاج بهذا الحقل يمكنها الوصول للنفط اللبناني.".
وبدأت شركة "إنرجيان" للنفط والغاز (Energean) المالكة لـ "إنرجيان باور"، والتي أدرجت في بورصة لندن شباط 2018، بجمع 460 مليون دولار لتطوير حقلي "كاريش" و"تنين" للغاز المتوقع أن تصل احتياطياتهما إلى نحو 2.4 مليار قدم مكعبة من الغاز و32.8 مليون برميل من النفط الخفيف والمكثفات، حسب رويترز، وفي أبريل/نيسان 2019، أعلنت "إنرجيان" أنها حققت اكتشافاً جديداً للغاز في شمال "كاريش"، ما أدى إلى زيادة سعة الحقلين بشكل كبير.
أساس النزاع ثغرة
في عام 2009، صحح لبنان حدوده الشمالية والجنوبية مع قبرص لتمتد جنوباً من الخط 23 بدلاً من الخط 1، وشمالاً إلى الخط 7 بدلاً من الخط 6، وذلك بعد خطأ ارتكب في 2007 من قبل الجانب اللبناني في أثناء المفاوضات مع قبرص، رسمت فيه الحدود بدءاً من الخط رقم 1 جنوباً بتراجع عن الخط 23.
استغلت إسرائيل الثغرة في عام 2010 لترسم حدودها انطلاقاً من الخط 1، علماً أنه كان من المفترض أن تبدأها من حيث انتهى لبنان عند الخط 23 بعد تعديل الاتفاق مع قبرص، وفي تموز 2011، أبلغت إسرائيل الأمم المتحدة بهذه الحدود لتنشأ منطقة بحرية متنازع عليها تقدر بحوالي 860 كلم مربع يقع فيها حقل "قانا". اعترض لبنان وأرسل رسماً لحدوده إلى الأمم المتحدة، حسب ما يراها.
استمر الخلاف حتى قدمت الولايات المتحدة الأميركية، عبر موفدها فريدريك هوف في عام 2012، اقتراحاً بتقاسم المنطقة المتنازع عليها والمعروفة بـ"البلوك 9"، وذلك برسم خط عرف في حينها بـ "خط هوف"، يعطي لبنان حوالي 500 كيلومتر مربع، و360 كيلومتراً مربعاً لإسرائيل. لكن لبنان رفض المقترح على أساس أن المنطقة بكاملها ضمن مياهه الإقليمية. وفي 2018، عاد مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد لطرح خط "هوف" لحل النزاع لكن المشروع رفض مرة أخرى.
ثغرة ثانية تفوّت الخط 29
النائب اللبناني ملحم خلف في لقاء ضمن وفد نيابي مع الرئيس ميشال عون، دعا لتعديل المرسوم 6433 الصادر عام 2011، المتعلق بترسيم الحدود البحرية جنوباً وإبلاغه دولياً. ويزيد مشروع المرسوم من حدود لبنان البحرية جنوباً لتتجاوز الخط 23 إلى الخط 29، ما يضيف 1,430 كيلومتراً مربعاً على المساحة السابقة المتنازع عليها، ويقع فيها جزء من حقل "كاريش".
هذه الدعوة تكشف ثغرة أخرى بتأخر التحرك اللبناني لتثبيت حدوده ضمن وثائقه الرسمية. ففي أبريل/نيسان عام 2021، وقع رئيس حكومة تصريف الأعمال حينها حسان دياب مشروع مرسوم يقضي بتعديل المرسوم 6433، إلا أن الرئيس عون لم يوقّعه بحجة انتظار وصول المبعوث الأميركي ورؤية ما بجعبته وما ستؤول إليه المفاوضات.
لكنّ مصدراً لبنانياً مطلعاً على المباحثات اللبنانية مع الوسيط الأميركي قال لـ "الشرق" في 14 يونيو/حزيران: إن عدم مسارعة لبنان إلى التصديق على المرسوم 6433 يأتي في سياق "النيّة المسبقة من بعض الفرقاء بتقديم تنازلات".
ما بعد الثغرات
حديث المصدر لـ "الشرق" عن التنازلات قد يبدو صحيحاً، خاصةً وأن اتفاق الترسيم النهائي أثبت صحة التقارير التي كشفت سابقاً عن اقتراح لبنان على الوسيط الأميركي عرضاً لحل النزاع يستثني حقل "كاريش" مقابل الحصول على حقل "قانا"، حيث قال مسؤول لبناني لوكالة "فرانس برس" حينها، إن لبنان "طرح زيادة المساحة البحرية من 860 كيلومتراً مربعاً إلى حوالي 1,200" في هذا العرض. وتابع "نحن بالأساس نريد حقل قانا كاملاً، وهذا يؤدي إلى تعديل (توسيع) الخط 23"، وبدوره قال مصدر آخر لـ "الشرق"، إن الجانب اللبناني سبق وأبلغ الأمم المتحدة في رسالة رسمية بتاريخ 14 يوليو/تموز 2010، بأن حقل قانا يقع ضمن منطقته الاقتصادية الخالصة".
العرض اللبناني، اعتبر تراجعاً عن الخط 29 لكنه أعاد التفاوض على المساحة السابقة المتنازع عليها مع زيادة عليها لأن حقل "قانا" يمتد بين الخط 1 إلى ما بعد الخط 23، بينما نتائج المفاوضات النهائية منحت اسرائيل بدلاً عن جزء الحقل الواقع خارج الخط 23 بحيث لن تحصل لبنان على كامل الحق من عائدات الحقل.
هل هي مقامرة؟
بالتأكيد سيمثل أي اكتشاف للغاز في مياه لبنان الإقليمية بارقة أمل لحل الأزمة الاقتصادية العنيفة التي تمر بها البلاد لا سيما مع زيادة الطلب على الغاز عالمياً وارتفاع سعره. على الأقل قد يكون الغاز حلاً لمشكلة توليد الكهرباء التي تعصف بالبلاد. لكن العرض اللبناني لإسرائيل أشبه بمقامرة، فعلى خلاف حقل "كاريش"، يعد حقل "قانا" حقلاً محتملاً ليس إلا، وتؤكد المتخصّصة بشؤون الطاقة لوري هايتيان في حديثها مع "النهار" اللبنانية، إن "قانا غير موجود اليوم إلا على الورق" مشيرةً إلى أنه "قد يتم العثور على الغاز فيه وقد لا يتم"، فهناك عدة دراسات زلزالية إنجليزية ونرويجية أشارت إلى احتمال وجود حقل غازي كبير، لكن يبقى حقلاً نظرياً حتى يبدأ التنقيب فيه.
في المقابل، بدأ الإنتاج من حقل "كاريش" قبل يوم من توقيع الترسيم النهائي بين الطرفين. مدير برنامج سياسات الخليج والطاقة بـ"معهد واشنطن"، سايمون هندرسون كتب سابقاً في مقال له، إن احتياطيات حقل "كاريش" للغاز الطبيعي تبلغ 1.75 تريليون قدم مكعب.
وكما يحتاج لبنان الغاز، تحتاجه إسرائيل، ويقول هندرسون إنه يمكن لوحدة "إنرجيان باور" (التي بدأت الانتاج بالفعل) استيعاب 8 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً، و"ستساعد هذه الكمية على تلبية الطلب الإسرائيلي المتزايد على الطاقة. وعلى سبيل المثال، تستهلك أنشطة تحلية المياه وحدها 10% من كهرباء إسرائيل. وفي نهاية المطاف، سيكون فائض الغاز متاحاً للتصدير، على أن تكون مصر العميل الأول، علماً بأن شروط الشراء الخاصة بغاز "كاريش" و"تنين" لا تسمح لشركة "إنرجيان" بالتصدير منهما"، حسب هندرسون.
في 2012، عُثر على الغاز بحقل "تنين" في عمق 5,500 متر في المتوسط على بعد 120 كيلومتراً شمال غرب حيفا، وبلغت التقديرات الأولية لحجم الغاز الطبيعي حينها بنحو 1.2- 1.3 تريليون قدم مكعب.
وتبحث أوروبا عن مصدر بديل للغاز الروسي عقب الحرب الأوكرانية. ووضعت القارة العجوز إسرائيل ضمن خياراتها للحصول على الغاز حيث أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين إن "الاتحاد الأوروبي سيعمل على التخلص من التبعية الروسية وتعزيز تعاونه في مجال الطاقة مع إسرائيل"، فهل انعكس الاهتمام الأوروبي بالغاز الإسرائيلي على الملفات السياسية المتشابكة مع إسرائيل ومن ضمنها ملف ترسيم الحدود مع لبنان؟