كان عام 2022 عام التضخم والركود التضخمي ورفع أسعار الفوائد عالمياً دون منازع. فلم تصف وكالة فيتش التضخم بـ "العنيد" هباءً. عام تفاوت أسعار الأسهم وأفعوانية البورصات، عام شهد على إحدى أصعب أزمات سلاسل التوريد، وضغوط تصدير القمح بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها على الغذاء العالمي.
عام فرضت أسعار النفط الجديدة نفسها على اللاعبين الكبار بعد قفزات لافتة وبعدها استقرارات "مرغمة"، وعام السباق للتحوط من الوقود الذي عانت منه أوروبا أيضاً في ظل الأزمة الأوكرانية وتوقف توريد الغاز الروسي. وكان عام عودة ملامح الحرب الباردة بلاعبين جدد (الصين والولايات المتحدة) مع الأزمة التايوانية وأزمة أشباه الموصلات قبلها.
وفي عام 2022 لم تسلم شركات التكنولوجيا من الأزمة، فانهارت هيبة ضخامة شركات عديدة منها، مثل مايكروسوفت وميتا، مع خنق النفقات، واستقالات جماعية وحملة إقالات وتسريحات أكبر. كما كان عام انهيار العملات المشفرة وبروز احتيالات وإفلاسات كبرى فيها، وصعود وهبوط الرموز غير القابلة للاستبدال.
دون أن ننسى أن عام 2022 كان عام إيلون ماسك الذي ماطل في صفقة الاستحواذ على تويتر ليعود ويتممها بعد ضغوط أخلاقية وقضائية، واستمراره في التنصل من مسؤولياته تجاه المنصة وبحثه عن "أحمق" يحل محله في رئاسة مجلس إدارتها. وكان أيضاً عام استمرار الإغلاقات في الصين بسبب جائحة كوفيد-19 وما سببته من تداعيات خاصة لجهة إنتاج رقاقات الهواتف الذكية وتأثيرها على إنتاج أجهزة آيفون، وبعدها رُفع هذا الحظر بعد سلسلة من المظاهرات والحركات الاحتجاجية التي اجتاحت الصين.
فبعد عام يُختصر بالتشاؤم والسلبية والمؤشرات الهابطة والضغوط المختلفة التي فاقمتها الأزمات السياسية، كيف تبدو ملامح عام 2023 وما الذي يخبئه للساحة الاقتصادية والمالية؟
النمو والتضخم
يشير تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الذي يعده صندوق النقد الدولي إلى أنّ التضخم وعدم اليقين سيجعلان من النشاط الاقتصادي أكثر ضبابية خلال العام 2023، مع استمرار التباطؤ وارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات تجاوزت تلك المسجلة خلال العقود السابقة. وفي السياق نفسه، تشير توقعات مورغان ستانلي إلى أن النمو الاقتصادي العالمي سيبلغ 2.2 بالمئة عام 2023، بانخفاض من 3 بالمئة عام 2022. أما توقعات بنك غولدمان ساكس فكانت أكثر سلبية، مع أرقام نمو عالمي لا تتجاوز 1.8% فقط في عام 2023، واستمرار صمود الولايات المتحدة الذي يتناقض مع الركود الأوروبي وإعادة الافتتاح "الوعر" في الصين.
وتشير المؤشرات إلى تباطؤ النمو العالمي من 6% في عام 2021 إلى 3.2% في عام 2022 ثم 2.7% في عام 2023، فيما يمثل أضعف أنماط النمو على الإطلاق منذ عام 2001 باستثناء فترة الأزمة المالية العالمية والمرحلة الحرجة من جائحة كوفيد-19، حسب صندوق النقد الدولي.
أما على صعيد التضخم العالمي، فلعل عام 2022 شهد على أسوأ جولات التضخم الذي بلغ 8.8% مرتفعاً من 4.7% عام 2021. بينما يبشرالعام القادم بانخفاض معدلات التضخم التي يُتوقّع أن تعود إلى 6.5% ومن ثمّ 4.1% عام 2024.
وينصح صندوق النقد القائمين على السياسة النقدية بمواصلة العمل لاستعادة استقرار الأسعار، مع توجيه سياسة المالية العامة نحو تخفيف الضغوط الناجمة عن تكلفة المعيشة. ويمكن أن يكون للإصلاحات الهيكلية دور إضافي في دعم الكفاح ضد التضخم من خلال تحسين الإنتاجية والحد من نقص الإمدادات، بينما يمثل التعاون متعدد الأطراف أداة ضرورية لتسريع مسار التحول إلى الطاقة الخضراء والحيلولة دون التشرذم، حسب ما ورد في التقرير.
سوق الأسهم
توقع تقرير بنك غولدمان ساكس أن تزداد ضغوط سوق الدب الهابطة في أسواق الأسهم قبل إفساح المجال لمزيد من الإشارات المتفائلة في وقت لاحق من عام 2023، كما يرى محللو البنك أن أسعار الفائدة ستصل إلى الذروة، وأن تدهور النمو الاقتصادي سيستقر قبل بدء ارتفاع أسعار الأسهم.
ويقول كبير استراتيجيي الأسواق العالمية، والرئيس المشارك للبحوث العالمية لدى بنك جيه بي مورغان، ماركو كولانوفيتش: "هناك أخبار جيدة وسيئة لأسواق الأسهم وفئات الأصول الأكثر خطورة في عام 2023. والخبر السار هو أن البنوك المركزية ستضطر على الأرجح إلى التمحور والإشارة إلى خفض أسعار الفائدة في وقت ما من العام المقبل، ما سيؤدي إلى انتعاش مستدام لأسعار الأصول وبالتالي الاقتصاد بحلول نهاية عام 2023. أما النبأ السيئ فهو أنه لكي يحدث هذا المحور، سنحتاج إلى رؤية مزيج من المزيد من الضعف الاقتصادي وزيادة البطالة وتقلب السوق وانخفاض مستويات الأصول الخطرة وانخفاض التضخم. كل ذلك من المحتمل أن يسبب أو يتزامن مع مخاطر هبوط في المدى القريب".
سوق الطاقة
لعبت الصين دوراً محورياً في تحديد، وربما لجم، أسعار الطاقة العالمية في عام 2022، بسبب انخفاض الإنتاج الصناعي الصيني الناتج عن استمرار الإغلاقات المرتبطة بالجائحة. وقد ساهم هذا الوضع في ضبط إيقاع الطاقة في أوروبا التي تمكنت نوعاً ما من تعويض نقصها من الغاز الروسي بفضل توفر المخزونات الصينية. إلا أنّ الوضع سيكون مختلفاً في عام 2023، إذ يتوقع المحللون أن ترتفع أسعار الطاقة لتبلغ 110 دولارات للبرميل، لأسباب عديدة أبرزها: قرار مجموعة أوبك+ الذي أبقى على أهدافها المتعلقة بالإنتاج، فضلاً عن التوافق الأوروبي مع مجموعة السبع لوضع سقف لأسعار الخام الروسي، وعودة النشاط الاقتصادي الصيني تدريجياً وما سيترتب عليه من زيادة في الطلب على النفط.
وفي هذا الإطار، يرى استراتيجيو بنك غولدمان ساكس أنّ أزمة الطاقة ستدفع الاقتصاد الأوروبي إلى الركود هذا الشتاء، إذ تشير الدراسات الاستقصائية وبيانات الإنتاج إلى أن التباطؤ الكبير في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة والتضخم المرتفع سيخفضان فعلياً مداخيل الأسر.
ولفت التقرير إلى أنّ الركود سيكون أقل وطأة، خاصة وأنّ إعادة موازنة سوق الغاز خفضت مخاطر تقنين الطاقة مع تقديم الحكومات مبالغ كبيرة من الدعم المالي. فمن المتوقع أن ينكمش اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 0.7% من الربع الرابع من 2022 إلى الربع الثاني من 2023، مع احتمال أن تتأثر ألمانيا وإيطاليا بدرجة أكبر من فرنسا وإسبانيا بأزمة الطاقة.
الإنفاق في قطاع التكنولوجيا
في حين عانى قطاع التكنولوجيا عام 2022 من هزات مقلقلة، قد تكون توقعات عام 2023 مبشّرة أكثر. إذ يرى تقرير غارتنر أنّه من المتوقع أن يصل إجمالي الإنفاق على تكنولوجيا المعلومات في جميع أنحاء العالم إلى 4.6 تريليونات دولار في عام 2023، بزيادة قدرها 5.1% عن عام 2022. ومن المتوقع أن يكون الطلب على تكنولوجيا المعلومات في عام 2023 قوياً حيث تمضي الشركات قدماً في مبادرات الأعمال الرقمية من أجل التصدي للاضطراب الاقتصادي.
ويقول نائب رئيس الأبحاث في شركة غارتنر، جون ديفيد لوفلوك: "الاضطراب الاقتصادي سيغير سياق الاستثمارات في التكنولوجيا، ويزيد الإنفاق في بعض المجالات ويسرع الانخفاض في مناطق أخرى، ولكن ليس من المتوقع أن يكون له تأثير مادي على المستوى العام للإنفاق على تكنولوجيا المؤسسة". فعلى الرغم من انخفاض القدرة الشرائية للأفراد، إلا أن الشركات ستحافظ على إنفاقها على التكنولوجيا، ويشير لوفلوك إلى أنّ "الشركات ستستخدم التكنولوجيا الرقمية بشكل أساسي لإعادة تشكيل تدفق إيراداتها، وإضافة منتجات وخدمات جديدة، وتغيير التدفق النقدي للمنتجات والخدمات الحالية، فضلاً عن تغيير عرض القيمة للمنتجات والخدمات الحالية".
ويقول: "لقد أدى هذا الاتجاه إلى تغذية التحول من شراء التكنولوجيا إلى تكنولوجيا البناء والتأليف والتجميع لتلبية محركات عمل محددة. يعد هذا التحول أساساً لنمو السحابة على مستوى أماكن العمل للإنفاق الجديد على تكنولوجيا المعلومات".
أما لجهة التوظيف، فيتوقع كثيرون أن تستمر جولات إعادة الهيكلة خلال عام 2023 من أجل التصدي للأزمات الاقتصادية وضمان استمرارية الشركات. ويقول رئيس وكبير المحللين في شركة الأبحاث تك أناليسيس ريسرش (TECHnalysis Research)، بوب أودونيل: "أعتقد أننا في عام 2023 سنستمر في رؤية القليل من إعادة النظر في حجم بعض المؤسسات، لكنني أعتقد أن الأمور ستستقر بعد ذلك".
وبالنسبة لسوق العملات المشفرة، فعلى الرغم من المطالبات بتنظيمها وهيكلتها، واعتمادها في كثير من البلدان حول العالم، لا يزال وقع أزمة إف تي أكس يرمي بظلاله على أداء هذه السوق خلال العام القادم.