من المحتمل أنك شهدت أحد أشكال ثقافة العمل المفرط على أرض الواقع، سواءً كانت شخصاً مدمناً على العمل أو شديد التركيز فيه، أو أحد مؤسسي الشركات الناشئة مفرطي الإنتاجية الذي يقتاتون على القهوة والنوم لساعتين يومياً. وقد أدّت الحاجة إلى الأداء المُرضي والعمل المفرط إلى صعوبة اللحاق برُكب متطلبات العمل التي لا تنتهي.
ولكن عندما بدأ الموظفون في الاستقالة بصمت والدعوة إلى تعزيز الصحة العقلية في العمل، أو حتى بعض مظاهر توازن الحياة في العمل، أصبحت ثقافة العمل المفرط مشكلة مجتمعية أكثر من مجرد طريقة لضمان الترقية المهنية. وتقول اختصاصية علم النفس، ومؤلِّفة كتاب إصلاح الاحتراق الوظيفي (The Burnout Fix)، ونائبة الرئيس في الابتكار التدريبي في شركة بتر أب (BetterUp)، خاسينتا خيمينيز (Jacinta Jiménez)، لفورتشن (Fortune): "هناك مغالطة وفكرة خاطئة مفادها أن العمل المستمر والإجهاد مرتبطان بالنجاح لذا نعتبر أن الانشغال الدائم مصدر للفخر، وهذا يحاصرنا في وهم مشترك يتمثل في أن الإنتاجية الدؤوبة والعمل المستمر لهما فوائد ونتائج إيجابية فقط، ولا ينطويان على أثر مكلف أو باهظ".
وربما الأسوأ من ذلك كله هو أن ثقافة العمل المفرط لا تنتهي عندما تشعر بالاستنزاف أو الإرهاق بل العكس؛ حيث تصبح الإنتاجية المستمرة أمراً روتينياً عندما تعتاد عليها، ويصبح الإفراط في العمل عادة للتغلب على المنافسة. وتقول خيمينيز: "يعتقد الكثير منا أيضاً أنه من أجل الحفاظ على ميزتنا التنافسية، لا يجب علينا العمل باستمرار فحسب بل زيادة وتيرة العمل وسرعته".
إذاً متى ندرك أننا وصلنا إلى الكفاية؟ أتذكر عندما كنت أسهر حتى وقت متأخر في مكتبة الكلية وأستمع إلى أحاديث زملائي حول الوقت الضئيل الذي ينامون فيه كما لو كان ذلك وسام شرف، لقد اعتقدوا أنّه لا حدود لقدرات أدمغتهم وأنّ التخلي عن الراحة سوف يميّزهم. لكن الكثير منا الآن يعتبر هذا التفكير إنتاجية سامة وضارة بالرفاهة العامة في الواقع، ومع ذلك فإن الإشارة إلى ثقافة العمل المفرط بأنها ضارة لا يجعل التخلص منها سهلاً. وتوضح خيمينيز قائلة: "يمكننا في الواقع تحمّل الإجهاد بجرعات صغيرة، والسبب الحقيقي هو الإجهاد المزمن دون أخذ استراحة للتعافي".
وتؤكّد الأبحاث ذلك إذ يمكن أن يؤدي الإجهاد المزمن إلى مشكلات صحية مثل أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم؛ كما يمكن أن يؤدي أيضاً إلى القلق والاكتئاب وأن يعرّض الناس لخطر مشكلات الصحة العقلية الخطِرة الأخرى. وفي الواقع قد لا تجعلنا ثقافة العمل المفرط أكثر إنتاجية، فكيف نخرج من هذه الحلقة المفرغة؟ أولاً، تذكّرنا خيمينيز أننا نتاج ثقافة سريعة الوتيرة يبحث فيها الناس عن الهدف والانتماء، لذا ليس غريباً أن ننغمس في الشركات والمدارس وأماكن العمل التي تروّج لثقافة العمل المفرط، وخلاصة القول إن هذا الاتجاه ليس خطأنا ولكن ما يزال بإمكاننا استعادة بعض السيطرة على وتيرة حياتنا.
الراحة ضرورة وليست مكافأة
على غرار الطريقة التي تحتاج فيها أجسامنا إلى التمدد والراحة والتعافي بعد الذهاب إلى النادي مثلاً للعودة مجدداً في اليوم التالي بالقوة نفسها؛ يحتاج دماغنا إلى فترات راحة أيضاً للتعافي من أجل الاحتفاظ بمزيد من المعلومات.
وتقول خيمينيز: "لا أعتقد أن الراحة يجب أن تكون مكافأة بل إنها ضرورة بيولوجية لأجسامنا". وقد يتعجّب الناس من فكرة إعطاء الأولوية للراحة، وذلك لأنهم يعتقدون أنه ليس لديهم ما يكفي من الوقت في اليوم لإنجاز مهامهم جميعها والتي تتبعها أيضاً رعاية الأطفال أو الآباء المسنين. وتقول خيمينيز إنه في حين أنه ليس غريباً أن يواجه العديد من الأشخاص عبئاً زائداً باستمرار، فإن فترات الراحة البسيطة يمكن أن تحدث فرقاً، مؤكدة الأثر الكبير للبدء بخطىً صغيرة حتى نتمكّن من الاعتياد على هذه الخطى بشكل دائم في يومنا.
وعندما نجد طريقة لموازنة الإجهاد مع الراحة، نصبح أفضل في التغلب على التحديات. وتضيف: "إن الأشخاص الأكثر مرونة والقادرين على النجاة أيضاً من ثقافة العمل المفرط هم من يستفيدون استراتيجياً من الراحة والتعافي لاستعادة الأداء".
تخصيص وقت لنفسك
لإجراء تغييرات مستدامة في يومك؛ احرص على حجز فترات صغيرة في جدولك اليومي للراحة واستعادة نشاطك بدلاً من الوصول إلى حد الاستنفاد، ومن النشاطات الممكنة المشي وكتابة المذكّرات والقراءة والتأمل.
وتقول خيمينيز: "يتعلق الأمر بالتفكير بشكل استراتيجي بفترات العمل والإجهاد والراحة أي التفكير في الأوقات التي نضطر فيها للعمل المفرط مع فريقنا، أو تلك التي تفرض علينا إنجاز مهام مرهقة أو حضور اجتماعات مجهِدة، ثم تحديد أوقات للراحة واستعادة النشاط، حتى لو كان هذا التخطيط على أساس يومي". وقد تكون هذه الاستراحة البسيطة لمدة 10 دقائق مثلاً والتي يمكن أن تساعد على استعادة الطاقة وتحسين الأداء الوظيفي، هي مشاهدة مقطع فيديو مضحك أو إرسال رسائل نصية أو الاتصال بصديق أو الاستلقاء والراحة أو حتى المشي في المنزل.
التفكير ملياً بالعناية بأنفسنا
من المفارقات أنَّ حتى الاعتناء بأنفسنا قد يكون انعكاساً لثقافة العمل المفرط حيث نشعر بالقلق إزاء الوقت غير المخصص للعمل؛ إذ إن الشعور بالارتباك حيال عدم القدرة على التأمل أو الجري أو الاتصال بصديق كل يوم يخالف فوائد هذه الأفعال في المقام الأول، فقد نشعر بالتوتر حتى بشأن مدى رعايتنا لأنفسنا عندما نختار القيام بشيء ما خارج العمل، وبخاصة عند المقارنة مع الآخرين.
فمثلاً يُظهِر الاتجاه السائد على منصة تيك توك بعنوان "5 إلى 9" قبل "9 إلى 5" روتيناً ساحراً لمدة 4 ساعات مليئاً بالتأمل وتناول العصائر الطبيعية والتمدد والوعي الذاتي قبل البدء بالعمل لكنّه غير واقعي تماماً، فمع الإجراءات الروتينية والخطوات المثالية التي تملأ الإنترنت قد تشعر أنه حتى العناية الجيدة بذاتك سوف تتطلّب عملاً مفرطاً.
أحياناً نحمّل أنفسنا بعض الضغوط الإضافية في سبيل تخصيص وقت للراحة لاحقاً، فقد يقلل البعض مدة نومه ليخصص الوقت بدلاً من ذلك للرعاية الذاتية مع بزوغ الفجر مثلاً، لتنتهي الحال بالنظر إلى المهام المريحة كما ننظر إلى العمل!
لذا بدلاً من إجهاد نفسك تعوّد على ممارسة ما يلائمك وخذ وقتك في العناية بذاتك، ففي النهاية هذا الوقت مخصص للراحة والاسترخاء. وتقول خيمينيز: "علينا أن نكون ماهرين في عدم القيام بشيء، وأن نحدد بعناية شكل النجاح الذي يلائمنا".
أهمية الشروط المرنة
احرص على وضع شروط لوقت تفقّد هاتفك المحمول أو تحديد الأشخاص الذين سوف ترد عليهم في خضم عملك؛ إذ من النادر أن يتبع الأشخاص "الحدود الصارمة" التي يضعونها على حد قول خيمينيز، لذا فإن الالتزام مثلاً بقولك إنك سوف ترد على رسائل المحادثة الجماعية لعائلتك ولكن لا أحد آخر لمدة ساعة هو مثال على الشروط المرنة التي يمكن أن تمنح شعوراً بمزيد من الحيوية وتخفف الإجهاد.
قوة التركيز
تستند ثقافة العمل المفرط بشكل رئيسي على خرافة أن تعدد المهام سوف يجعلك أكثر إنتاجية. لكن أوضح مؤلِّف كتاب "الدماغ المقاوم للتقدم بالعمر: استراتيجيات جديدة لتحسين الذاكرة، وحماية المناعة، ومحاربة الخرف" (The Age-Proof Brain: New Strategies to Improve Memory, Protect Immunity, and Fight Off Dementia)، د. مارك ميلشتاين (Dr. Marc Milstein) لفورتشن سابقاً إن تعدد المهام باعث على النسيان لأنه لا يمنحنا وقتاً كافياً لمعالجة المعلومات والاحتفاظ بها في الذاكرة طويلة المدى.
ويوضح ميلشتاين قائلاً: "يندهش الناس من مقدار ما يتذكّرونه عندما يبطئون قليلاً في عالم يدفعنا دائماً إلى القيام بمهام متعددة والتفكير بالخطوة التالية". ويمكن أن يؤدي الحد من تعدُّد المهام إلى تحقيق فائدتين مهمتين في آن معاً، وهما تجنب ثقافة العمل المفرط وزيادة الكفاءة.
وضع الحدود واحترام طبيعتنا البشرية
يمكن للعمل المفرط والسعي الدائم إلى الإنتاجية أن يُشعرنا وكأننا مجرد آلات عاملة كما يمكن أن يجعل التحدث في أماكن العمل وإظهار الضعف أمراً صعباً للغاية؛ لكن وضع حدود بين العمل وغيره والدعوة إلى ظروف عمل تلائم الموظفين قد يكون حلاً مفيداً حسب ما قاله الخبراء لفورتشن. ويمكن أيضاً أن يكون من المفيد إدراك الفرق بين ضرورات العمل التي تستدعي العمل بجد، وثقافة العمل المفرط التي تتجاوز ذلك. وقالت المعالجة النفسية والكاتبة إيستر بيريل (Esther Perell) لفورتشن سابقاً: "حياتك كلها تنحصر في هاتفك، وعليك أن تقرر متى تريد إغلاقه".
لذا احرص على الانتباه إلى نفسك لضمان أنك لست ضحية ثقافة العمل المفرط ولا تتردّد في استشارة المعالجين النفسيين لمساعدتك على ذلك. وتوضح خيمينيز إن: "العمل الذكي مثل حِيل زيادة الإنتاجية؛ مهم ولكن هناك جزء مهم آخر أيضاً في العملية وهو ببساطة العناية بعقولنا ورفاهنا".