قد لا يكون العمل المرن هو أول ما يتبادر إلى الذهن عندما نفكّر في التمويه الأخضر، لكنّه في الواقع أقرب مما نتخيّل، حيث تتجه الشركات لتطبيق نمط مماثل من التمويه في سياق سياسات العمل المرنة وتقترب بذلك بصورة خطيرة من ممارسة ما يمكن أن يسمى بـ "التمويه بالعمل المرن"، تماماً مثلما تلاعبت شركات أخرى بمبادراتها البيئية ومبادرات الاستدامة لتحقيق متطلبات المستهلكين المتزايدة للعلامات التجارية الخضراء.
وتستخدم الشركات مصطلح "العمل المرن" على نطاق واسع في محاولاتها لجذب المواهب في أعقاب الاستقالة الكبرى، وذلك وفقاً لتقرير نماذج العمل الهجينة لعام 2022 (2022 Hybrid Ways of Working Report) من شركة جابرا (Jabra)، حيث يفضّل 63% من الموظفين نظام عمل هجين يوفر المرونة في العمل، ومع ذلك لا يوجد معيار محدد بوضوح لما يعنيه ذلك. وليس غريباً أن يكون العمل المرن في طليعة جهود التوظيف واستبقاء الموظفين للعديد من الشركات نظراً لشعبيته.
ومع ذلك، فإن أفضل سياسات العمل المرن الشائعة حالياً لا ترقى حتى إلى المعنى الحقيقي للمرونة. وتترافق العديد من سياسات العمل الهجين بشروط، فمثلاً تتطلب عادةً حضور الموظفين في المكتب لعدد معين من الأيام في الأسبوع، أو حضورهم إلكترونياً في أوقات معيّنة في اليوم دون مبرر واضح لذلك، وتحدد سياسات أخرى مكان إقامة الموظفين، وهذا يُلزِمهم بالعيش في مناطق قريبة من المكتب، لذا فإن العمل وفق هذه السياسات ليس مرناً تماماً.
وقد أثبت العامان الماضيان أن هناك العديد من "الوظائف المكتبية" التقليدية التي يمكن العمل فيها بلا مكتب فعلي (أي عن بُعد)، وبينما تكون المكاتب مفيدة لإجراء أنشطة معينة مثل بناء العلاقات والفرق، فقد أثبتت الجائحة أنه يمكن القيام بالعديد من الوظائف بفعالية من أي مكان.
ومن جهة أخرى، لا يمكن العمل بفعالية في كافة الوظائف عند العمل بنظام مرن، فعلى سبيل المثال، يقتصر عمل الوسطاء على ساعات التداول في بورصة نيويورك (NYSE)، ويضطر المسؤولون الطبيون للالتزام بالقوانين الخاصة بالوصول إلى سجلات المرضى.
وتنشأ المشكلة عندما تدّعي الشركات أنها تقدم خيارات عمل مرنة للوظائف المكتبية التقليدية، بينما تعني فعلياً خيار العمل من المنزل عدة مرات في الأسبوع فقط. ونتفق جميعاً على أن نظام العمل بدوام كامل من المكتب ليس نظاماً مرناً، لكن هل يُعقل أن نطلق صفة المرونة على نظام العمل الذي يُلزم الموظفين بالعمل من المكتب لبضعة أيام متقطّعة ومن المنزل أياماً أخرى؟
ففي كلتا الحالتين، يفرض صاحب العمل على الموظفين مكان العمل، لذا فإن مجرد "السماح" بالعمل عن بُعد بشكل جزئي لن يؤدي إلى زيادة الشعور بالانتماء والدافع والثقة وتحسّن الصحة العقلية والتوازن العام بين العمل والحياة، إنما هو ببساطة ادعاء بالمرونة.
إذاً، ما هي المرونة الحقيقية؟ تستند المرونة الحقيقة إلى مفهوم واحد هو الاستقلال الوظيفي، فسياسات العمل المرنة الفعلية تضع الثقة في المقدمة، وهذا يسمح للموظفين باختيار وقت العمل ومكانه بشكل أفضل، حتى إذا كان ذلك لا يتماشى مع الجدول الزمني التقليدي للعمل المكتبي.
وفي الواقع، أظهرت دراسة شركة جابرا نفسها أن الموظفين الذين يتمتعون باستقلالية كاملة في اختيار وقت عملهم ومكانه قد تمتّعوا بمستويات أعلى من الشمول والإنتاجية والثقة والرفاهية عند مقارنتهم مع الموظفين المقيّدين بوقت ومكان محددين للعمل. لكن بالمقابل، قال 20% فقط من الموظفين على مستوى العالم أن لديهم الحرية الكاملة في اختيار وقت عملهم ومكانه.
لذا فإن المعنى الواقعي للمرونة هو منح الموظفين الحرية الكاملة لاختيار وقت العمل ومكانه الأكثر ملاءمة وإنتاجية، واللذين يناسبان احتياجات الموظفين وتفضيلاتهم.
وهناك بالطبع حاجة لوجود مسؤولية فردية لدى الموظفين، لكن العمل المرن الحقيقي سينعكس في نهاية المطاف إيجابياً على الشركة لأنه سيمكّن الموظفين من النجاح ويجعلهم أكثر إنتاجية إلى جانب تعزيز الولاء والالتزام.
وإن إتاحة المرونة بشكل مجرّد للموظفين هو أمر منفصل كلياً عن تمكينهم من تحقيقها بصورة واقعية، ويجب أن تزوّد الشركات الموظفين بتكنولوجيات مرنة مُصمّمة بالفعل لهذا النمط من العمل الموزع للحفاظ على استمرارية العمل من أي مكان.
وإن الادعاء أنه يمكن للموظفين العمل من أي مكان، ثم دفعهم للعمل بصورة مكتبية بسبب عدم توفّر تكنولوجية حديثة ملائمة، هو طريقة سريعة لخلق شعور بالاستياء بين الموظفين وبالتالي قد يؤدي إلى زيادة الاستقالات.
وما يزال سوق العمل محدوداً على الرغم من التحدّيات الاقتصادية المتغيرة باستمرار، لكن في الواقع، يخطّط أكثر من 40% من الموظفين لترك وظائفهم في الأشهر الثلاثة إلى الستة المقبلة، وهذا يعني أن جذب المواهب والاحتفاظ بها سيكون التحدّي الأهم والأصعب أمام الشركات.
وفي حين قد يبدو من السهل ذكر خيارات "العمل المرن" في إعلان الوظائف لجذب المواهب الجديدة أو حث الموظفين على البقاء في الشركة، فإن هذه الخيارات سوف تصنّف تحت اسم "التمويه بالعمل المرن" إذا لم تُطبّق بطريقة حقيقية وشاملة.
الآراء المعبَّر عنها في مقالات فورتشن (Fortune) تمثّل آراء مؤلفيها فقط ولا تعكس آراء ومعتقدات فورتشن.