المحتوى محمي
Al-Majarra Al-Majarra Al-Majarra
المحتوى محمي
آراء وخبرات

تقييم الذكاء الاصطناعي للمحتوى الدرامي شراكة إبداعية أم إقصاء مهني؟

الثابت اليوم أن أدوات الذكاء الاصطناعي الخاصة بالمحتوى الدرامي قادرة على التعامل مع المحتوى الدرامي الذي يتبع صيغاً معينة.

بقلم


money

ماهر منصور، خبير استشاري في تقييم وتحليل النصوص الدرامية (مصدر الصورة: فورتشن العربية)

بصفتي أحد العاملين في تقييم وتحليل النصوص الدرامية وتقدير اتجاهات المشاهدة، ربما علي أن أقلق مما طرحه منذ أيام "سامي أربا"، الرئيس التنفيذي لشركة "لورغو أيه آي" (Largo.ai)، في الدورة 75 لمهرجان كان السينمائي خلال جلسة العرض التعريفية بأداة الذكاء الاصطناعي (Largo) التي صممها فريقه لدعم المنتجين والموزعين والمخرجين والكتّاب والممولين والممثلين والممثلات في اتخاذ القرار المتعلق بتبني إنتاج الأعمال الدرامية والمشاركة فيها. فظاهر ما سيقدمه "Largo" من شأنه أن يبشر بقرب اندثار مهنتي وإحالتي إلى التقاعد القسري، كونه معَداً لتقديم نتائج عالية الدقة تتعلق بتقييم المحتوى ودراسة بنية وعناصر القصة، وتقديم التوصيات حولها، بالإضافة إلى عرض رؤى حول التمثيل ومستويات الميزانية وتقدير عائد الاستثمار فيها، وتوفير تنبؤات تتعلق بحظوظ العمل الدرامي في شباك التذاكر ومنصات البث (OTT) في مرحلة ما قبل الإنتاج، وهذا موجز ما أعمله اليوم.

غير أني لا أشعر بتهديد قادم من أداة الذكاء الاصطناعي الجديدة على مهنتي، وذلك ليس بسبب تطمينات سامي أربا حين قال في الجلسة التعريفية أن "Largo" لم يتم تصميمه "ليحل محل العملية الإبداعية"، وإنما لأن ما قاله هو جوهر ما أؤمن به، و سبق واختبرته منذ عدة أعوام، بالفعل، حين ظهرت أداة ذكاء اصطناعي مماثلة هي "Script Book" لتقوم، انطلاقاً من سيناريو الفيلم، بتحليل شخصيات الفيلم واستخراج صفاتهم، وتمييز الأبطال والخصوم، وتقييم عواطف كل شخصية بينهم، إضافة إلى تحديد أسلوبية السيناريو الفني وجنسه الفيلمي وموضوعه، وتوقع فئة جمهوره المستهدف، بما في ذلك الجنس والعرق؛ وبالتالي تحديد التصنيف العمري MPAA للفيلم، فضلاً عن توقعات حظوظه في شباك التذاكر.

لكن عدم قلقي من التجارب الجديدة لا يعني أن يقلل المبدعون من أهمية وفاعلية ما تبشر به من إمكانيات كبيرة لخوارزميات الذكاء الاصطناعي في تقييم المحتوى الدرامي، فرغم قناعتنا بأن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه الاستغناء عن أصحاب المهن الإبداعية، أقله في المدى المنظور، إلا أنه من المؤكد أيضاً أن لا مكان لعنصر بشري لا يكيّف أدواته الإبداعية مع تقنيات الذكاء الاصطناعي وأدواته، وهو الأمر الذي يدعوني للقول إن الشراكة الإبداعية بين المبدعين وبرامج الذكاء الاصطناعي باتت ملحة اليوم وضرورة، ولاسيما للتعامل مع التجارب الدرامية المبتكرة الجديدة التي بدأنا نشهدها مؤخراً في عالم الإنتاج التلفزيوني والسينمائي، وفي مقدمتها تجارب الدراما التفاعلية التي منحت المشاهد حق التدخل المباشر في خيارات أبطالها، وكتابة السيناريوهات الفنية وتقدير أوزان الممثلين التسويقية وسواها.

الرئيس التنفيذي لشركة "ScriptBook" ناديرا أزيرماي كانت أكدت بدورها ضرورة عقد هذه الشراكة الإبداعية بين البشر وبرامج الذكاء الاصطناعي لتحقيق أهداف مثالية لبرنامج شركتها "ScriptBook "، والذي تقوم خوارزمياته بتفسير وفهم وتحليل سيناريوهات الأفلام من خلال تقديم مفهوم أسمته "الوعي بالقصص" الذي يركز على ثلاثة جوانب منفصلة، هي: الوعي بالشخصيات وسماتها والوعي بأسلوب السيناريو وموضوعه والوعي بهيكل السيناريو الفني. مشيرة إلى أن "الكثير من الناس يعتقدون أن التكنولوجيا ستقتل الإبداع في نهاية المطاف، ولكن هذا ليس هو واقع الحال".

ولكن أي نوع من الإبداع الذي أشارت إليه "أزيرماي" لا يمكن للتكنولوجيا أن تقتله؟!

بالنسبة لمهنتي في تقييم وتحليل النصوص الدرامية وتقدير اتجاهات المشاهدة فإن المساحة الإبداعية التي لا تستطيع التكنولوجيا قتلها، هي تلك التي تتطلب ممارسة نقدية قادرة على التعامل مع اللغة التي يصفها الناقد الفرنسي "رولان بارت" في كتابه (الكتابة في درجة الصفر) بأنها، أي اللغة، "ليست بريئة على الإطلاق، فللكلمات ذاكرة أخرى تغوص في عمق الدلالات الجديدة بطريقة عجيبة".

 ومع هذا الشكل من اللغة، سيكون العنصر البشري المختص هو الوحيد القادر على كشف ما يختبئ في حنايا النص الظاهر للعمل الدرامي ويطوقه، ويحقق أغراضاً فنية وبلاغية ترتبط على نحو وثيق بسياق حكاية العمل وحواراته وما يرتبط منه بالسياق الثقافي للمنتج، وهو الأمر الذي لا يمكن لبرامج الذكاء الاصطناعي، أقله في المدى المنظور، الكشف عنه.

الثابت اليوم أن أدوات الذكاء الاصطناعي الخاصة بالمحتوى الدرامي مثل "Largo" و"ScriptBook" قادرة على التعامل مع المحتوى الدرامي الذي يتبع صيغاً معينة، والتي تم تدريب تلك الأدوات عليها سابقاً اعتماداً على مجموعة بيانات كبيرة لـ "6500" سيناريو تغطي جميع الأنماط الفيلمية والأشكال الفنية التي يمكن تصورها في عالم الإنتاج السينمائي في حالة "ScriptBook"، أو اعتماداً على 60 ألف فيلم أوروبي وأميركي، من جميع الأنواع تم تدريب "Largo" عليها، وهذا الأمر يعني بوضوح أن التجارب التكنولوجية الحديثة في عالم صناعة السينما والتلفزيون المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، ستُسقط من حساباتها تلقائياً، قياساً بمواصفات الشريك البشري الذي تحتاجه تلك التجارب، الدخلاء على المهنة العاجزين عن التعامل مع كل الأساليب الإبداعية البشرية في عالم السينما والتلفزيون. كونها قادرة على القيام بعملهم بكفاءة تفوق قدرة هؤلاء بأضعاف، ولكنها في المقابل ستظل بحاجة للتعاون مع صانعي الدراما القادرين على إثراء أعمالهم وتطوير قدرات إبداعية تؤسس لشراكة مثالية مع الآلة وبرامج الذكاء الاصطناعي.

باختصار، لن يقتل الذكاء الاصطناعي مهنة إبداعية، وإنما من يقتلها هم أصحاب المهنة أنفسهم، الدخلاء منهم على وجه التحديد.


image
image