قبل عقد من الزمن، نشر اثنان من الأكاديميين في جامعة أوكسفورد ورقة بحثية استشهد بها المختصون على مر السنوات اللاحقة حملت عنوان "مستقبل التوظيف: ما احتمال أن تحلّ الحوسبة محلّ الوظائف؟" وخلصت الدراسة إلى أن 47% من الوظائف في الولايات المتحدة عرضة للحوسبة، ما جعل الكثيرين يشعرون بالخوف من الآثار الاجتماعية للذكاء الاصطناعي.
لكن في أوج جنون الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي لم يتوقعه سوى قِلة من الناس في عام 2013، أعاد كارل بنيديكت فراي ومايكل أزبورن التساؤل عن نتائج ورقتهما البحثية لافتراضهما أنها قلّلت من تأثير الأتمتة على التوظيف في المستقبل القريب.
وعندما قرأت ورقة عملهما التي من المقرر أن تُنشر في شهر يناير/كانون الثاني، ذُهلت لاستمرار المعوقات التي حدداها سابقاً. فعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيحلّ محلّ العديد من الوظائف في البيئات الافتراضية، مثل التسويق عبر الهاتف، يفترض فراي وأزبورن أن هذه القيود ستحصر استخدام الذكاء الاصطناعي في المهام المنخفضة المخاطر لفترة من الوقت.
وفي الواقع، لا تزال التفاعلات الشخصية مهمة جداً في بيئة العمل وليس من السهل الاستعاضة عنها بوسائل أخرى: فالنماذج اللغوية الكبيرة هي مجرد برامج حاسوبية وليس لها وجود في العالم الفعلي.
وحتى إذا ازداد استخدام الذكاء الاصطناعي في الفضاء الافتراضي، سيبقى فن أداء المهام وجهاً لوجه مهارة ذات قيمة كبيرة في العديد من المهن والوظائف، بما فيها المهن الإدارية والتخصصية والوظائف التي تتطلب التعامل المباشر مع الزبائن، فالأشخاص الذين يتركون بصماتهم في أماكن العمل والقادرون على بناء علاقات مع الآخرين وتحفيزهم وإقناعهم هم الذين سيحققون النجاح في العصر الحالي الذي يشهد تطوراً سريعاً في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. ففي حال استخدمت الذكاء الاصطناعي لكتابة رسالة حب لشخص ما، عليك أن تكون ماهراً في التعبير عن مشاعرك عندما تلتقي به للمرة الأولى.
وبما أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قادر على توليد "معلومات غير دقيقة"، ستُحجم الشركات عن الاعتماد عليه في أي مهمة تتعلق بالعلاقات الطويلة الأمد. أما في مجال الفنون، فما يزال الذكاء الاصطناعي التوليدي غير قادر على ابتكار محتوى جديد تماماً، حيث أفاد المؤلفان بأن "الذكاء الاصطناعي يُظهر أداءً جيداً في المهام التي يكون لها هدف محدد، مثل الانتقال إلى المستوى التالي في إحدى ألعاب الفيديو، لكن عندما تكون الغاية هي ابتكار محتوى فريد وجديد، فما هو الهدف من تحسين الأداء؟"
بمعنى آخر، أخبرني فراي عبر الهاتف اليوم إن الذكاء الاصطناعي التوليدي قادر على إنتاج نصوص بأسلوب مشابه لأسلوب شكسبير، لكن شكسبير كان موجوداً بالفعل، وإذا كان الهدف هو توليد محتوى جديد تماماً، فكيف يمكن تحفيز الذكاء الاصطناعي دون وجود توجيه محدد مسبقاً؟ وأضاف إن التكنولوجيا الحالية تصلح لإنتاج "سلاسل للأعمال السابقة بدلاً من إنتاج أعمال مبتكرة".
ولعلّ أفضل استخدام لأنظمة الذكاء الاصطناعي هو في البيئات المنظمة، مثل المستودعات التي تعتمد على الأتمتة، في حين يشكّل تطبيقها تحدياً في البيئات التي تحمل مفاجآت وعوامل غير متوقعة مثل، الطرق المفتوحة.
في العموم، يرى فراي وأزبورن أن دور الذكاء الاصطناعي الكبير في المستقبل القريب هو أن يكون شريكاً للبشر في أداء المهام وتسهيلها بدلاً من أن يحلّ محلّهم تماماً، وهو ما قد يسهّل على الأشخاص ذوي الكفاءات المحدودة الدخول إلى القطاعات المختلفة، ما يزيد بدوره من المنافسة ويُسفر عن تقليل الأجور في النهاية، وهو ما حدث بالفعل مع شركة أوبر في قطاع سيارات الأجرة، لكن ليس بالضرورة أن يقود هذا التطور إلى إلغاء العديد من الوظائف. باختصار، نظراً لعدم وجود حلول لعيوب الذكاء الاصطناعي التوليدي في الأفق، يتريّث الأكاديميان في جامعة أكسفورد في إصدار تقدير رئيسي جديد لعدد الوظائف المعرضة للخطر.
وأضاف فراي: "لا نعتقد أن هذه المعوقات ستستمر إلى الأبد، لكننا نؤمن أنها ما زالت قائمة اليوم على الرغم من دخولنا هذا العصر الجديد للذكاء الاصطناعي التوليدي الذي لا يزال بعيداً كل البعد عن تكنولوجيا الأتمتة، وهو ما يستلزم تدخّل الإنسان لهذه الأسباب".