تُعتبر كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى في غالبية دول العالم. وقد عُرفت هذه الرياضة بأشكال مختلفة منذ أكثر من 4500 سنة، إلى أن ظهرت بشكلها الحديث في القرن الثامن عشر، وتم تأسيس نادي شيفيلد الإنكليزي (Sheffield Football Club) كأول نادٍ في العالم عام 1857م.
كرة القدم اليوم هي صناعة وسوق ضخمة، فقد أظهر تقرير المراجعة السنوية للأداء المالي لكرة القدم لعام 2022 الصادر عن مجموعة ديلويت الاستشارية، أن حجم سوق كرة القدم في أوروبا وحدها وصل إلى 27.6 مليارات دولار.
أما ونحن في خضم فعاليات بطولة كأس العالم الثانية والعشرين، فمن المغري لأي مهتم بالاقتصاد والأعمال أن يتساءل عن الأثر الاقتصادي لهذه البطولة، وعن حجم هذا الحراك من جهة فرص الاستثمار، والأرباح، والتكاليف، والإيرادات.
يختلف خبراء الاقتصاد بشأن الحصيلة الاقتصادية لبطولة كأس العالم لكرة القدم، فالبعض لديه نظرة تفاؤلية بأنها مربحة، أي أن إجمالي الإيرادات يفوق إجمالي التكاليف. أما البعض الآخر فيرى أنها استثمار خاسر. يبدو الأمر بسيطاً ومباشراً للوهلة الأولى، ولكن الإحاطة بدقة بالأثر الاقتصادي لكأس العالم هو أمر فيه قدر من الغموض والتعقيد.
غالباً لا يتم تقييم القرارات المتعلقة بكأس العالم من خلال الربح والخسارة المادية المباشرة، وذلك لأن الأبعاد غير المباشرة تؤخذ بالحسبان أيضاً، فالترويج الدولي للدولة المضيفة، وتعزيز تواجدها الإعلامي على الساحة الدولية، وكذلك الدعاية التي يقوم بها المشجعون بعد عودتهم إلى بلادهم، هي ذات وزن اقتصادي كبير ولو كان غير مباشر.
وتختلف تلك الآثار غير المباشرة من حيث أهميتها بين الدول، فهي ذات أهمية بالغة لدول تتطلع إلى الانتشار العالمي واستقطاب الاستثمارات الخارجية، بينما لا يتم اعتبارها بذات الأهمية بالنسبة للدول الكبيرة ذات التاريخ السياحي والتأثير الجيوسياسي الكبيرين.
من جهة أخرى، تختلف النظرة بالنسبة إلى الإيرادات، فمعظمها يتم الحصول عليه من بيع التذاكر، وكذلك من حقوق البث التلفزيوني للمباريات، وهذه الإيرادات تذهب إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا"، ولا يشارك البلد المضيف في الحصول على جزء منها، لذلك يصبح من المثير للجدل إدخالها في معادلة حساب الربح والخسارة. ولكن في المقابل، تحصل الدول على عائدات مباشرة على شكل رسوم وتراخيص وضرائب، وعائدات أخرى مثل توفير عدد كبير من فرص العمل وإن كانت لفترة محدودة.
كذلك تنتظر الدول المضيفة قدوم أعداد كبيرة من المشجعين للإنفاق خلال البطولة، وهذا أمر واقع وصحيح بشكل عام، فهؤلاء بحاجة إلى إقامة وطعام وشراب وغير ذلك، ولكن التحدي يظهر في طريقة احتساب ما ساهم به هؤلاء المشجعون، فبعض الاقتصاديين يتطلع إلى الإنفاق الإجمالي خلال فترة البطولة، والبعض الآخر يأخذ في الحسبان الإنفاق الطبيعي الذي كان سيتم من قبل المواطنين وكذلك السياح العاديين المتوقع قدومهم دون وجود كأس العالم، ومقدار ما ساهموا به من إجمالي هذه الإيرادات.
كذلك الأمر بالنسبة إلى التكاليف، فهناك معايير عالية وشروط صعبة تضعها الجهة المنظمة، وعلى الدول المضيفة الالتزام بها، وهي مرتبطة بعدد الملاعب ومواصفاتها والتجهيزات المطلوبة فيها، وكذلك توفير الإقامة الفندقية وأماكن السكن المؤقت للاعبين وكذلك المشجعين المتوقع قدومهم خلال البطولة.
هذا الأمر يضع أعباء كبيرة على الدول التي لا تمتلك القدرات الاقتصادية المطلوبة، كما أنه يؤثر على خططها الاقتصادية ومستوى الخدمات التي كان من الممكن تقديمها باستخدام هذه الأموال، ناهيك عن أن بعض المرافق التي يتم بناؤها ولا يتم استخدامها بشكل مجدٍ بعد البطولة، يمكن أن تتحول إلى ما يعرف بمرافق "الفيل الأبيض"؛ أي أبنية تحتاج إلى مبالغ كبيرة للتشغيل والصيانة وتدرّ بالمقابل إيرادات متواضعة. ولكن المتفائلين يرون أن تلك المرافق الرياضية والإسكانية ستكون من نقاط الجذب لاحقاً، كما أنها ستدعم الدولة في استضافة أحداث رياضية كبيرة في المستقبل.
ولا يجب هنا أن نغفل هنا التكاليف غير المباشرة المرتبطة بتنظيم كأس العالم كتوسعة البنية التحتية في الدولة وتحديثها، من مطارات، ومستشفيات، وطرق، وجسور، وغيرها. وهنا أيضاً يثور نقاش بشأن هذه التكاليف، فالبعض يراها تكاليف مرتبطة بكأس العالم، والبعض الآخر يعتبر غالبيتها مشاريع ومبادرات تنموية هدفها النهضة الاقتصادية على المديين المتوسط والطويل، وأن استخدامها خلال فترة البطولة ما هو إلّا أحد الأهداف وجزء مما تم إنشاؤها لأجله.
بالتالي، فمن غير المجدي الإمعان في دراسة الآثار الاقتصادية لكأس العالم من منطلق الربح والخسارة، وذلك لعدم وجود إجماع حول المقاييس والأدوات، وما يجب تضمينه وما يجب إهماله. ربما من الأجدى التقييم النهائي لمدى نجاح هذا الحدث، والاستمتاع بهذه الفعالية العالمية الكبيرة.