لطالما كان القطاع الوظيفي في حاجة ماسّة إلى إصلاح شامل قبل الوباء وتداعياته على الشركات. لم تكن الوظائف مستدامة حتى قبل الاستقالة الكبرى التي قرعت جرس الإنذار؛ للتنبيه أن النظام الشائع الذي يحكم العلاقة بين الموظف وصاحب العمل لم يعد مناسباً للغرض.
يفضل غالبية الموظفين التنقل بين الوظائف وعبر الشركات، إذ لا يخدم هذا التوجه مصلحة أصحاب العمل. بالكاد تدرك الشركات حتى الآن ما الذي سيصيبها إذا لم تتّبع المسار الصحيح للحفاظ على المواهب، خاصةً مع تفشّي ظاهرة اقتصاد الأعمال المستقلة.
يعد البحث عن المواهب وتوظيفها عملاً مكلفاً. على سبيل المثال، أي شركة كبيرة تقوم بتعيين 200 موظف سنويًا بمتوسط إنفاق يبلغ 4,500 دولار لكل موظف تتكبد تكلفة إجمالية قدرها 900,000 دولار سنوياً. كما أن تكلفة التدريب والتطوير بالإضافة إلى "الخبرة المفقودة" قد تؤثر جميعها على مستوى خدمة العملاء وتنعكس سلباً على عائدات الشركات.
ما هي الإجراءات التي يمكن لأصحاب العمل اتخاذها لتغيير قواعد اللعبة وضمان الاحتفاظ بالمواهب وتعزيز مستويات الإنتاجية في أعقاب الاستقالة الكبرى؟
منح الموظفين سبباً للاهتمام بصدق في نجاح الشركة
إن تزويد الموظفين بخيار امتلاك حصة ولو رمزية في الشركة يمثّل طريقة فعّالة تساعد في الحفاظ على المواهب وتعزيز الإنتاجية. من المرجح أن يقوم الموظفون بالاهتمام صدقاً وتأدية واجباتهم على أكمل وجه عند معرفتهم بأن نمو أعمال الشركة سيؤدي أيضاً إلى نموهم الشخصي وتحقيق الإيرادات لمصلحتهم. من خلال خبرتي في مزاولة الأعمال الحرة، لقد جعلني العمل المستقل أعمل بجدية أكبر، وباحترافية وحماس أكبر.
منح الموظفين سبباً لإظهار الولاء
تخاطب العديد من الشركات موظفيها حول المسار الوظيفي، لكن معظم هذه الشركات تقوم بتقديم خطط مهنية غامضة أو أهداف غير واقعية، والقليل منها يتابع إجراءات التنفيذ. إن المسار الوظيفي الواضح هو المسار الذي يوافق عليه الموظف منذ نقطة التوظيف، مع جدول زمني مفصّل ومرتبط بمقاييس أداء محددة.
عدم استنزاف الموظف
في محاولة لزيادة الإنتاجية إلى الحد الأقصى، يقترب العديد من أصحاب العمل من استعباد مواهبهم إذا جاز التعبير، ما يؤدي إلى استنزاف الموظفين وإرهاقهم، لا سيما الموظفين بدوام كامل. يتيح العمل من المنزل واقتصاد العمل الحر للمهنيين فرصة وضع الحدود ورسم خط أحمر بين مساهماتهم ومتطلبات أرباب العمل. ونشهد اليوم عدداً أقل من المهنيين الذي يقومون بالسماح لشركاتهم باستنزاف طاقاتهم، وبالتالي عدم السماح لأنفسهم بتجاوز نطاق عملهم لمجرد إرضاء أصحاب العمل.
تحديد القيمة السوقية لرأس المال البشري
يعد الكثير من الموظفين على استعداد لترك أرباب عملهم الحاليين بعد حصولهم على أول فرصة لتحقيق أجر أفضل. لذلك، يجب على الشركات القيام بتقييم دوري لمواهبها، في ظل اتجاهات السوق ومعدلات التضخم والعروض المنافسة وتكلفة المعيشة والعوامل الشخصية والاقتصادية الأخرى، من أجل ضمان تعويض مواردها البشرية باستمرار بناءً على قيمتهم السوقية الحالية.
غرس الثقة وتعزيز الثقافة المؤسسية
تعد العلاقات الصادقة بين صاحب العمل والموظف والشعور بالانتماء من الأمور الأساسية على كافة الأصعدة ضمن الشركة. يساهم الانفتاح بين القيادة والموظفين لمناقشة القضايا الهيكلية والهرمية وسياسات الشركة وغيرها من القضايا المتعلقة بالأعمال في نجاح المؤسسات وازدهارها. يخالج الموظفين شعور أكبر بالرضا ويتحلّون بإرادة أكبر لتحقيق نتائج أفضل عندما تتواجد الثقة بينهم وبين قادتهم. وتنبع ثقة الموظفين بالشركة بشكل أكبر من خلال المعاملة الحسنة. من المعروف أن الثقة الضعيفة تساهم في تقليل مستويات التفاني والإنتاجية بين الموظفين.
مواءمة استراتيجية الشركة مع الاستدامة
إن غرس الاستدامة في صميم الأعمال يمنح الموظفين إحساساً بالهدف. تتمتع الشركات التي وُلدت مع غرض متجذّر في عملياتها، أو العلامات التجارية التي تساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بفرصة أكبر للاستفادة من سياساتها البيئية والاجتماعية في الحفاظ على المواهب. على سبيل المثال، من المرجّح أن يكون لالتزام شركة "أوبر" بأن تصبح منصة تنقّل خالية من الانبعاثات بحلول عام 2040 تأثير إيجابي على موظفي الشركة الحاليين والمستقبليين.
تلبية احتياجات الصحة العقلية للموظفين
يلحق بالصحة النفسية أضرار في أثناء الجوائح أكثر من أي وقت آخر. في عام 2022، أدّت الاضطرابات الاجتماعية والسياسية وعدم الاستقرار الاقتصادي إلى تفاقم أزمة الصحة العقلية على مستوى العالم. وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، قد تخسر بعض أكبر الاقتصادات في العالم مثل الهند ما يزيد عن تريليون دولار من حيث القيمة بسبب مشكلات الصحة العقلية بحلول عام 2030. ينبغي على الشركات أن تأخذ على عاتقها مسؤولية التصدي لوصمة العار المرتبطة بالصحة العقلية، وبالتالي تمكين الموظفين من مناقشة حالة صحتهم العقلية بانفتاح وطلب المساعدة لحلّها. يجب على أصحاب العمل المسؤولين أيضاً استنباط طرق لمنع تكرار هذه الحالات، واتخاذ تدابير وقائية لتجنّب الانحراف عن الرفاهية العقلية المثالية في مكان العمل أساساً.
دعم الموظفين ومجتمعاتهم
يجب على أصحاب العمل دعم موظفيهم وذويهم من العائلات والمجتمعات المحلية خلال أوقاتهم الصعبة. على سبيل المثال، تعهدت شركة "ديدي" (DiDi) الصينية للنقل الذكي، بالحد من انبعاثات الكربون وتقديم المساعدة لسائقيها وعائلاتهم في أعقاب الوباء. تلعب هذه الجهود المجتمعية دوراً رئيسياً في تعزيز مستوى إشراك الموظفين، إذ تؤدي في نهاية المطاف إلى رفع معدلات الاحتفاظ بالموظفين.