المحتوى محمي
المحتوى محمي
آراء وخبرات

ما هي أهم أسرار الابتكار في الشركات؟

قدرة الشركات على التجريب لا تتعلق بتوفير الأدوات اللازمة للتجريب وحسب، لكنها تتعلق ببناء ثقافة وبيئة حاضنة وداعمة للتجريب، وأي شيء يتطلب تغييراً في الثقافة والفكر والمعتقدات فهو صعب، بل صعب جداً.

بقلم


money

باسم جفال، مدير للابتكار في شركة علم (Elm) التقنية، متخصص في بناء المبتكرين والبيئة الإبداعية في المؤسسات (مصدر الصورة: فورتشن العربية)

من الأسئلة التي لا تنفكّ تراود الكثيرين: ما الذي يجعل شركة أكثر ابتكاراً من الأخرى؟ ما الذي يصنع شركة مبتكِرة؟ ما هي أسرار الابتكار؟

قد نجد إجابات مختلفة من المتخصصين في فنّ الابتكار، ولقد خضت رحلةً طويلة في البحث عن إجابة، من الرياض إلى سيول شرقاً، من ثم إلى برلين ولندن غرباً، ثم تلك المنطقة بين المحيط الهادئ والأطلسي، حيث ثالث أكبر دولة في العالم، وتوجهت بالتحديد إلى جامعتي هارفارد وستانفورد. اطلعت على تجارب عشرات الشركات الرائدة في مجال الابتكار، قرأت كثيراً وكتبت كثيراً ومزجت هذا كله بمجموعة كبيرة من التجارب، حيث حظيتُ بفرصة العمل داخل مطبخ الابتكار لسنوات في شركة علم (Elm)، إحدى أكبر شركات تكنولوجيا المعلومات في السعودية. 

يقوم موقع بوكينج (Booking.com) بحوالي 25,000 تجربة سنوياً، وتقوم جوجل بأكثر من سبعة آلاف تجربة سنوياً على محرك البحث فقط. شركة بي آند جي (P&G) تجري حوالي 10,000 تجربة سنوياً، وكذلك كل الشركات الكبيرة، أمازون (amazon)، مايكروسوفت (Microsoft)، آي بي إم (IBM)، تويوتا، فيديكس، بل حتى شركة الملابس آتش آند إم (H&M)، كل هذه الشركات تقوم بآلاف التجارب سنوياً لمعرفة المنتج الذي سيقع المستخدم في غرامه وسيحل أهم مشكلاته.

أهم أسرار الابتكار من وجهة نظري هو "التجريب المستمر، بسرعة وبأقل تكلفة". هل يبدو سر الابتكار واضحاً سهلاً؟ لا أبداً، الكلام هو السهل، لكن التنفيذ في غاية الصعوبة، والسبب في ذلك أن قدرة الشركة على التجريب لا تتعلق بتوفير الأدوات اللازمة للتجريب وحسب، لكنها تتعلق ببناء ثقافة وبيئة حاضنة وداعمة للتجريب، وأي شيء يتطلب تغييراً في الثقافة والفكر والمعتقدات فهو شيء صعب للغاية.

التجريب يحتوي على مخاطرة، والمخاطرة مظنّة الفشل، فالشركات التي تخاف من الفشل وتخشى على سمعتها في كل خطوة تخطوها، صغيرة كانت أم كبيرة، لن تُجرّب ولن تُخاطر.

في أحد الأيام، في وقت قريب من موسم الأعياد، قام فريق في موقع بوكينج بتغيير الصفحة الرئيسية التي تم تطويرها على مدى سنوات، ووضعوا مكانها شيئاً مختلفاً تماماً، بدلاً من أن تدخل وتجد أمامك خيارات السكن، وضعوا صفحة بسيطة تحتوي على سؤال للعميل حول أين يريد أن يذهب؟ متى؟ وكم شخصاً معه؟ ثم تعطيه خيارات عن السكن ورحلات الطيران واستئجار السيارة.

كان الرئيس التنفيذي متوجساً للغاية من التجربة، بل حتى مدير قسم التجريب كان يتوقع فشل التجربة إلى حد كبير، لكن لماذا لم يمنعوا الفريق من المضي بهذه التجربة التي قد تؤدي إلى خسارة آلاف بل ربما مئات الآلاف من الزبائن والزوار؟ يقولون: لأنهم بذلك يخرقون واحدة من أهم قيم بوكينج، وهي منح الأشخاص أياً كانوا فرصة تجريب أشياء جديدة! يبدو الأمر مبالغاً فيه، أليس كذلك؟ أتفهّم ذلك، لكن هكذا يتم صنع الشركات الاستثنائية، وليس باعتماد الطرق التقليدية.

حتى تُبنى بيئة حاضنة وداعمة للتجريب، لا بد أن تكون البيئة تتقبل الفضول وتدعو إليه، تُغلِّب الأرقام والحقائق على الآراء، وتُقام فيها التجارب بصورة أخلاقية وشفافة، لأي شخص الحق في أن يقوم بتجربة.

في يوم من الأيام، تم تطوير إصدار جديد من إحدى الألعاب التي طورتها شركة أمازون، (Air Patriots)، وكان ثمة مفاجأة كبيرة، إذ تراجعت مدة اللعب بنسبة 70% خلال أسبوع وتراجع الدخل بمقدار 30%.

تم التعاطي مع المشكلة المدوّية كفرصة للتعلم والاستكشاف والتجريب، بدلاً من إطلاق الصيحات وتراشق الاتهامات. وجدوا أن السبب هو زيادة صعوبة اللعبة بنسبة 10%، فقاموا بإعادة اللعبة إلى درجة صعوبتها الطبيعية بسرعة، لكن هذه الحادثة جعلتهم يفكرون، ماذا لو قللنا الصعوبة عن المستوى الطبيعي، هل سيؤثر ذلك إيجاباً على عدد المستخدمين والدخل؟ وبالفعل، قاموا بتجربة تقليل الصعوبة في أربعة مستويات جديدة، وبعد سلسلة من التجارب الصغيرة أطلقوا إصداراً جديداً سهلاً زاد من مدة اللعب بنسبة 20%، وزاد الدخل بنسبة 20% أيضاً. صُدفة قادت إلى اكتشاف، تبعته مجموعة من التجارب قادت إلى ازدياد كبير في الدخل.

الغالبية العظمى من الشركات متحفظة جداً في ما يتعلق بالتجريب، بل إنها توجّه الموظفين للتركيز على التجارب شبه مضمونة النجاح، وهذا يجعل الموظفين يركّزون على الحلول المألوفة، الواضحة، والمضمونة، ليتجنبوا الفشل، الأمر الذي يتنافى مع مفهوم التجريب. 

يقول مؤسس أمازون، جيف بيزوس: "التجربة التي تكون متأكداً من نجاحها ليست تجربة". الصحيح أن إجراء عدد كبير من التجارب أقل مخاطرة من إجراء عدد قليل، فمن خلال العدد الكبير قد تحقق شيئاً من النجاح ولو كان قليلاً، أما إجراء عدد قليل من التجارب فقد لا يأتيك بأي قصة نجاح، الأمر الذي قد يضع الشركة في موقف محرج كونها لم تُحرز أي تقدّم. 

في شركة بوكينج، 10% فقط من التجارب تُعطي نتائج إيجابية، ونسبة الفشل هي 90%، لكن لا بأس، ثمة نجاح وثمة تقدّم. يقول الشريك المؤسس لشركة ستراتيجايزر (Strategyzer)، أليكس أوسترفالدر، إنهم وجدوا من خلال الأبحاث أن الشركات تحتاج إلى حوالي 250 مشروع ابتكاري (تجربة)، تكلفة كل تجربة لا تتجاوز 100 ألف دولار للخروج بقصة نجاح واحدة كبيرة.

تحتاج الشركات إلى تعزيز مفهوم حرية التجريب، وتقبّل الفشل والتعلّم المستمر، ونشر وتأكيد أن الآراء والأفكار متساوية، والذي يُقدّم رأياً على آخر أو فكرة على أخرى هو البيانات التي نتجت عن عملية التجريب. يقولون: "لا شيء يقتل الابتكار أسرع من شخص ذو راتب مرتفع"، في إشارة إلى أن القيادات أحياناً تفرض آراءها وأفكارها الخاصة بحكم ما لديها من السلطة، ولا تُعطي مساحة كافية للخلاف والاختلاف والتجريب. 

إذا زرتَني في مكتبي يوماً فستجدني علّقت على الجدار مقولة (Data Trumps Opinions)، أي أن البيانات تتفوّق على الآراء الشخصية، تذكّرني هذه المقولة، وتذكّر من يزورني، أن الفيصل عندما نختلف هو البيانات التي نجنيها من خلال التجربة.

يقول أحد المدراء في بوكينج: "إذا أخبرتنا التجربة أن لون الجزء العلوي في الصفحة الرئيسية يجب أن يكون زهرياً -بدل اللون الأزرق الغامق- فإننا سنغيّره للزهري. يجب علينا دائماً أن تتبع نتائج التجربة".

أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي؛ آي بي إم، الشركة العريقة، أدركت أهمية التجريب في عمليات التسويق في عام 2015، حيث أطلقت مشروعاً استراتيجياً لزرع ثقافة التجريب في الشركة، فازدادت أعداد التجارب من 97 تجربة فقط في عام 2015 إلى 2,822 في عام 2018.

اتفقتُ أنا وفريقي في نهاية عام 2021 على أن نقوم بمئة تجربة خلال عام 2022. وصلنا اليوم ونحن في نهاية الربع الثالث إلي قرابة الثمانين تجربة، كثير منها يتعلق بأمور بسيطة، كتصميم حلول مختلفة بطرق وأساليب مختلفة ومع أنواع مختلفة من الموظفين، وكإقامة مسابقة للابتكار بدون جوائز مثلاً، أو تحفيز الموظفين بأساليب غير تقليدية، أو تجربة برنامج كبير ومعقّد لأول مرة، أو استخدام طريقة جديدة لاختبار الأفكار، أو غيرها. الشيء الأهم من عدد التجارب وماهيّتها، هو المناخ والسلوك والشعور التي صنعتها كل محاولات التجريب. اكتشفنا أن السعي للقيام بالمزيد من التجارب جعلنا أكثر رغبة في الاكتشاف، وأكثر جرأة وتقبّلاً للأخطاء وانفتاحاً على الآراء الأخرى، كما جعلنا أكثر تقبّلاً للنقد والتوجيه، وأكثر تعلّماً، وأسرع في عملية التحسين والتطوير.

قمتُ بمقابلة عدد من المدراء في عدد من الشركات الكبيرة في المملكة العربية السعودية للدردشة حول موضوع التجريب، ووجدت أن الشركات عموماً تتراوح بين الوعي بسر الابتكار والسعي إلى تفعيله، وبين البحث عن ذلك السر، ولعل مقالي هذا يساعد ولو بشيء بسيط في تسريع بناء شركات مبتكرة، يكون لها دور كبير في تحقيق رؤية طموحة وحياة مزدهرة. 


image
image