أدّى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى زعزعة أمن الطاقة في جميع أنحاء العالم، ما أودى بالعديد من البلدان إلى أزمة طاقة يخشى قادة القطاع من أنها قد تستمر لسنوات.
فقد كانت روسيا من بين أكبر مورّدي النفط والغاز الطبيعي في العالم قبل الحرب، لكن التوترات مع الغرب في أعقاب الغزو قد عطّلت أسواق الطاقة في جميع أنحاء العالم. وكانت روسيا أكبر مورّدي أوروبا للنفط والغاز العام الماضي، وعزّز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفوذه إثر هذا الاعتماد في الصيف الماضي عندما أعلن عن إيقاف تدفق الغاز الطبيعي إلى القارة، ما أدى إلى حالة طوارئ للطاقة.
وكان لتزاحم أوروبا على الإمدادات البديلة من الولايات المتحدة والشرق الأوسط بعد ذلك الإيقاف أثر عالمي من خلال استحواذ القارة على تدفقات الغاز الطبيعي التي كانت مخصصة للدول النامية، ما أدّى إلى أزمة طاقة أشد.
ووصفت الوكالة الدولية للطاقة (International Energy Agency)، وهي هيئة رقابية على قطاع الطاقة، أزمة الطاقة العالمية بأنها "غير مسبوقة" من حيث عمقها وتعقيدها، مع توقع انخفاض العرض ووقوع الأسواق في حالة عدم يقين حتى عام 2023 على الأقل، ويبدو أن بعض قادة أكبر شركات الطاقة في العالم يوافقون على ذلك. فقد قال الرئيس التنفيذي لشركة الطاقة الإيطالية إنيل (Enel)، التي تعد واحدة من أكبر الشركات في أوروبا، فرانشيسكو ستاراس لشبكة سي إن بي سي (CNBC) يوم الثلاثاء خلال مؤتمر في لندن: "الأوضاع مضطربة للغاية ولم تتغيّر الحال على مدار العام بأكلمه".
وأضاف: "سوف تبقى الاضطرابات المقبلة حاضرة بقوة، وقد تتغير بعض تفاصيلها، لكننا سنشهد على الأقل عاماً أو عامين من التقلّب الشديد في أسواق الطاقة".
مخاوف غير منتهية
جاءت تعليقات ستاراس مع دخول بلدان الشمال موسم التدفئة، حيث يكون الطلب على الطاقة في أعلى مستوياته وتكون الأسواق أكثر عرضة للتقلّبات.
وأدى نقص إمدادات الطاقة العالمية بالفعل إلى انقطاع التيار الكهربائي في دول من بينها باكستان وبنغلاديش، بينما اضطرت الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة في أوروبا مثل الأسمدة والحديد والصلب إلى خفض الإنتاج. لكن المخاوف المبكرة من مشاكل التدفئة التي قد تنجم عن ندرة إمدادات الوقود لم تتحقق حتى الآن بسبب الطقس الدافئ غير المعتاد، وانخفاض استهلاك الطاقة، وإعادة ملء خزانات احتياطي الغاز الطبيعي بسرعة على الرغم من محدودية الإمدادات من روسيا.
ولكن في ظل استمرار عدم استقرار أسواق الطاقة في المستقبل المنظور، يمكن أن تستمر أزمة الطاقة في أوروبا لفترة أطول بكثير من هذا الشتاء فقط في ظل استمرار انخفاض إمدادات الغاز الروسي، وزيادة الطلب واستهلاك الطاقة في دول أخرى بما فيها الصين بعد انخفاض استهلاك الطاقة بسبب إجراءات الإغلاق المتعلقة الجائحة. وقد حذّر ستاراس من أن أوروبا قد لا تتمكّن من تجاوز أزمة الطاقة العام المقبل حتى لو تجاوزتها هذا الشتاء.
وقال: "أعتقد أننا سنجتاز الشتاء بمساعدة الخزانات التي تَمكنّا من تعبئتها، لكننا سوف ندرك لاحقاً أننا بحاجة إلى إعادة ملء هذه المخازن مجدداً تحضيراً للعام المقبل، وحينئذ لن نجد الغاز الروسي". وأضاف: "يجب ألا ننسى أن ملء الخزانات للعام الحالي مرتبط بشكل أو بآخر بتوريد الغاز الروسي حتى لو كان بكميات قليلة، لكن بالنظر إلى الوضع الحالي، علينا بذل الكثير من الجهود لضمان أمن الطاقة والقارة في الشتاء المقبل". وحذّرت الوكالة الدولية للطاقة في وقت سابق من هذا الشهر من أن تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا قد تستمر في الانخفاض إلى نصف الكمية الحالية بحلول العام المقبل وربما "تتوقف تماماً"، وأوضحت أن إعادة تعبئة المخازن استعداداً لفصل الشتاء المقبل ستكون أكثر صعوبة بالنسبة للدول الأوروبية.
منظور طويل المدى
قال ستاراس إن الحل الوحيد طويل المدى بالنسبة لأوروبا والدول الأخرى التي تواجه أزمة طاقة هو تقليل الاستهلاك. وأوضح أن أوروبا ستضطر إلى توفير الغاز "أينما أمكنها ذلك، وتقليل الاستهلاك، وإيقاف استخدامات الغاز غير المنطقية، وتوفير ما يمكن للقطاعات التي تحتاج الغاز لتستمر بالعمل".
وأضاف إن الخطوة الأهم التي يجب أن تركّز القارة عليها بالنسبة لعام 2023 هي استكشاف طرق خفض استهلاك الطاقة. وقد اتفقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في سبتمبر على خفض استهلاك الكهرباء طوعاً بنسبة 10% بحلول مارس/آذار 2023، بالإضافة إلى هدف إلزامي بنسبة 5% خلال ساعات الذروة، وذلك للحفاظ على الإمداد وعلى استقرار الأسعار.
لكن من المرجّح أن يصبح الاعتدال في استهلاك الطاقة عادة طويلة الأمد في أوروبا، وقالت الزميلة الباحثة في مركز سياسات الطاقة العالمية (Center on Global Energy Policy) بجامعة كولومبيا (Columbia University)، تاتيانا ميتروفا، لفورتشن (Fortune) في أكتوبر/تشرين الأول إن أزمة الطاقة تمثّل "فرصة فريدة لأوروبا لإعادة رسم ملامح طلبها على الطاقة فعلياً، وإعادة تقييم منهجية استهلاكها للطاقة".
وأضافت: "يجب أن تتغير عادات استهلاك الطاقة على أي حال إذا كنا جادين بشأن الأهداف المناخية، لكن هذا التغيّر سيكون مدفوعاً الآن بفواتير الطاقة الباهظة". وتوقّعت الوكالة الدولية للطاقة في الشهر الماضي أن تكون أزمة الطاقة دافعاً لتعزيز الالتزام بتحوّل قطاع الطاقة عن استهلاك الوقود الأحفوري.
وأشارت الوكالة إلى أن مصادر الطاقة المتجددة لم تؤدِّ سوى "دور هامشي" في ارتفاع تكاليف الكهرباء في جميع أنحاء العالم، في حين تسببت مصادر الوقود الأحفوري بما فيها الغاز الطبيعي بزيادة فواتير الطاقة ضعفين أو ثلاثة أحياناً في جميع أنحاء أوروبا هذا العام. وقال ستاراس لشبكة سي إن بي سي إن الدول الأوروبية يمكن أن تستفيد من أزمة الطاقة لتقليل استخدام الوقود الأحفوري والتوجه نحو مصادر الطاقة المتجددة، بعد أن علّق سابقاً إن حرق الغاز لإنتاج الكهرباء هو عملية "سخيفة".
وأوضح قائلاً: "أعتقد أننا فهمنا أخيراً مدى ارتباطنا بالغاز ومدى حماقة هذا الاعتماد وكيف يمكننا إصلاح ذلك"، مضيفاً إن "الاقتصاد يمكن أن يصبح أعلى كفاءة مما يعتقده البعض إذا اعتمد بدرجة أقل على الوقود الأحفوري".